فصل: باب في عدم النظير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخصائص **


  باب في أن العلة

إذا لم تتعد لم تصح من ذلك قولهم من اعتل لبناء نحو كم ومن وما وإذ ونحو ذلك بأن هذه الأسماء لما كانت على حرفين شابهت بذلك ما جاء من الحروف على حرفين نحو هل وبل وقد‏.‏

قال‏:‏ فلما شابهت الحرف من هذا الموضع وجب بناؤها كما أن الحروف مبنية‏.‏

وهذه علة غير متعدية وذلك أنه كان يجب على هذا أن يبنى ما كان من الأسماء أيضاً على حرفين نحو يد وأخ وأب ودم وفم وحِر وهَن ونحو ذلك‏.‏

فإن قيل‏:‏ هذه الأسماء لها أصل في الثلاثة وإنما حذف منها حرف فهو لذلك معتد فالجواب أن هذه زيادة في وصف العلة لم تأت بها في أول اعتلالك‏.‏

وهبنا سامحناك بذلك قد كان يجب على هذا أن يبني باب يد وأخ وأب ونحو ذلك لأنه لما حذف فنقص شابه الحرف وإن كان أصله الثلاثة ألا ترى أن المنادى المفرد المعرفة قد كان أصله أن يعرب فلما دخله شبه الحرف لوقوعه موقع المضمر بني ولم يمنع من بنائه جريه معرباً قبل حال البناء‏.‏

وهذا شبه معنوي كما ترى مؤثر داع إلى البناء والشبه اللفظي أقوى من الشبه المعنوي فقد كان يجب على هذا أن يبني ما جاء من الأسماء على حرفين وله أصل في الثلاثة وألا يمنع من بنائه كونه في الأصل ثلاثياً كما لم يمنع من بناء زيد في النداء كونه في الأصل معرباً بل إذا كانت صورة إعراب زيد قبل ندائه معلومة مشاهدة ثم لم يمنع ذاك من بنائه كان أن يبنى باب يد ودم وهن لنقصه ولأنه لم يأت تاماً على أصله إلا في أماكن شاذة أجدر‏.‏

وعلى أن منها ما لم يأت على أصله البتة وهو معرب‏.‏

وهو حر وسه وفم‏.‏

فأما قوله‏:‏ يا حبذا عينا سليمى والفما وقول الآخر‏:‏ هما نفثا في فِيَ من فمويهما فإنه على كل حال لم يأت على أصله وإن كان قد زيد فيه ما ليس منه‏.‏

فإن قلت‏:‏ فقد ظهرت اللام في تكسير ذلك نحو أفواه وأستاه وأحراح قيل‏:‏ قد ظهر أيضاً الإعراب في زيد نفسه لا في جمعه ولم يمنع ذلك من بنائه‏.‏

وكذلك القول في تحقيره وتصريفه نحو فويه وأسته وحرح‏.‏

ومن ذلك قول أبي إسحاق في التنوين اللاحق في مثال الجمع الأكبر نحو جوار وغواش‏:‏ إنه عوض من ضمة الياء وهذه علة غير جارية ألا ترى أنها لو كانت متعدية لوجب أن تعوض من فإن قيل‏:‏ الأفعال لا يدخلها التنوين ففي هذا جوابان‏:‏ أحدهما أن يقال له‏:‏ علتك ألزمتك إياه فلا تلم إلا نفسك والآخر أن يقال له‏:‏ إن الأفعال إنما يمتنع منا التنوين اللاحق للصرف فأما التنوين غير ذاك فلا مانع له ألا ترى إلى تنوينهم الأفعال في القوافي لما لم يكن ذلك الذي هو علم للصرف كقول العجاج‏:‏ من طلل كالأتحمي أنهجَن وقول جرير‏:‏ وقولي إن أصبت‏:‏ لقد أصابن ومع هذا فهل التنوين إلا نون وقد ألحقوا الفعل النونين‏:‏ الخفيفة والثقيلة‏.‏

وههنا إفساد لقول أبي إسحاق آخر وهو أن يقال له‏:‏ إن هذه الأسماء قد عاقبت ياءاتها ضماتها ألا تراها لا تجتمع معها فلما عاقبتها جرت لذلك مجراها فكما أنك لا تعوض من الشيء وهو موجود فكذلك أيضاً يجب ألا تعوض منه وهناك ما يعاقبه ويجري مجراه‏.‏

غير أن الغرض في هذا الكتاب إنما هو الإلزام الأول لأن به ما يصح تصور العلة وأنها غير متعدية‏.‏

ومن ذلك قول الفراء في نحو لغة وثُبة ورئة ومئة‏:‏ إن كان من ذلك المحذوف منه الواو فإنه يأتي مضموم الأول نحو لغة وبرة وثبة وكرة وقلة وما كان من الياء فإنه يأتي مكسور الأول نحو مئة ورئة‏.‏

وهذا يفسده قولهم‏:‏ سنة فيمن قال‏:‏ سنوات وهي من الواو كما ترى وليست مضمومة الأول‏.‏

وكذلك قولهم‏:‏ عِضة محذوفها الواو لقولهم فيها‏:‏ عضوات قال‏:‏ هذا طريق يأزم المآزما وعضوات تقطع اللهازما وقالوا أيضاً‏:‏ ضَعَة وهي من الواو مفتوحة الأول ألا تراه قال‏:‏ متخذاً من ضَعَوات تَولَجا فهذا وجه فساد العلل إذا كانت واقفة غير متعدية‏.‏

وهو كثير فطالب فيه بواجبه وتأمل ما يرد عليك من أمثاله‏.‏

  باب في العلة وعلة العلة

ذكر أبو بكر في أول أصوله هذا ومثل منه برفع الفاعل‏.‏

قال‏:‏ فإذا سئلنا عن علة رفعه قلنا‏:‏ ارتفع بفعله فإذا قيل‏:‏ ولم صار الفاعل مرفوعاً فهذا سؤال عن علة العلة‏.‏

وهذا موضع ينبغي أن تعلم منه أن هذا الذي سماه علة العلة إنما هو تجوز في اللفظ فأما في الحقيقة فإنه شرح وتفسير وتتميم للعلة ألا ترى أنه إذا قيل له‏:‏ فلم ارتفع الفاعل قال‏:‏ لإسناد الفعل إليه ولو شاء لابتدأ هذا فقال في جواب رفع زيد من قولنا قام زيد‏:‏ إنما ارتفع لإسناد الفعل إليه فكان مغنياً عن قوله‏:‏ إنما ارتفع بفعله حتى تسأله فيما بعد عن العلة التي ارتفع لها الفاعل‏.‏

وهذا هو الذي أراده المجيب بقوله‏:‏ ارتفع بفعله أي بإسناد الفعل إليه‏.‏

نعم ولو شاء لماطله فقال له‏:‏ ولم صار المسند إليه الفعل مرفوعاً فكان جوابه أن يقول‏:‏ إن صاحب الحديث أقوى الأسماء والضمة أقوى الحركات فجعل الأقوى للأقوى‏.‏

وكان يجب على ما رتبه أبو بكر أن تكون هنا علة وعلة العلة وعلة علة العلة‏.‏

وأيضاً فقد كان له أن يتجاوز هذا الموضع إلى ما وراءه فيقول‏:‏ وهلا عكسوا الأمر فأعطوا الاسم الأقوى الحركة الضعيفة لئلا يجمعوا بين ثقيلين‏.‏

فإن تكلف متكلف جواباً عن هذا تصاعدت عدة العلل وأدى ذاك إلى هجنة القول وضعفة القائل به وكذلك لو قال لك قائل في قولك‏:‏ قام القوم إلا زيداً‏:‏ لم نصبت زيداً لقلت‏:‏ لأنه مستثنى وله من بعد أن يقول‏:‏ ولم نصبت المستثنى فيكون من جوابه لأنه فضلة ولو شئت أجبت مبتدئاً بهذا فقلت‏:‏ إنما نصبت زيداً في قولك‏:‏ قام القوم إلا زيداً لأنه فضلة‏.‏

والباب واحد والمسائل كثيرة‏.‏

فتأمل وقس‏.‏

فقد ثبت بذلك أن هذا موضع تسمح ‏"‏ فيه أبو بكر ‏"‏ أو لم ينعم تأمله‏.‏

ومن بعد فالعلة الحقيقية عند أهل النظر لا تكون معلولة ألا ترى أن السواد الذي هو علة لتسويد ما يحله إنما صار كذلك لنفسه لا لأن جاعلاً جعله على هذه القضية‏.‏

وفي هذا بيان‏.‏

فقد ثبت إذاً أن قوله‏:‏ علة العلة إنما غرضه فيه أنه تتميم وشرح لهذه العلة المقدمة عليه‏.‏

وإنما ذكرناه في جملة هذه الأبواب لأن أبا بكر - رحمه الله - ذكره فأحببنا أن نذكر ما عندنا فيه‏.‏

وبالله التوفيق‏.‏

حكم المعلول بعلتين

باب في حكم المعلول بعلتين

وهو على ضربين‏:‏ أحدهما ما لا نظر فيه والآخر محتاج إلى النظر‏.‏

الأول منهما نحو قولك‏:‏ هذه عشري وهؤلاء مسلمي‏.‏

فقياس هذا على قولك‏:‏ عشروك ومسلموك أن يكون أصله عشروي ومسلموي فقلبت الواو ياء لأمرين كل واحد منهما موجب للقلب غير محتاج إلى صاحبه للاستعانة به على قلبه‏:‏ أحدهما اجتماع الواو والياء وسبق الأولى منهما بالسكون والآخر أن ياء المتكلم أبداً تكسر الحرف الذي قبلها إذا كان صحيحاً نحو هذا غلامي ورأيت صاحبي وقد ثبت فيما قبل أن نظير الكسر في الصحيح الياء في هذه الأسماء نحو مررت بزيد ومررت بالزيدين ونظرت إلى العشرين‏.‏

فقد وجب إذاً ألا يقال‏:‏ هذه عشروي بالواو كما لا يقال‏:‏ هذا غلامي بضم الميم‏.‏

فهذه علة غير الأولى في وجوب قلب الواو ياء في عشروي وصالحوي ونحو ذلك وأن يقال عشري بالياء البتة كما يقال هذا غلامي بكسر الميم البتة‏.‏

ويدل على وجوب قلب هذه الواو إلى الياء في هذا الموضع من هذا الوجه ولهذه العلة لا للطريق الأول - من استكراههم إظهار الواو ساكنة قبل الياء - أنهم لم يقولوا‏:‏ رأيت فاي وإنما يقولون‏:‏ رأيت في‏.‏

هذا مع أن هذه الياء لا ينكر أن تأتي بعد الألف نحو رحاي وعصاي لخفة الألف فدل امتناعهم من إيقاع الألف قبل هذه الياء على أنه ليس طريقه طريق الاستخفاف والاستثقال وإنما هو لاعتزامهم ترك الألف والواو قبلها كتركهم الفتحة والضمة قبل الياء في الصحيح نحو غلامي وداري‏.‏

فإن قيل‏:‏ فأصل هذا إنما هو لاستثقالهم الياء بعد الضمة لو قالوا‏:‏ هذا غلامي قيل‏:‏ لو كان لهذا الموضع البتة لفتحوا ما قبلها لأن الفتحة على كل حال أخف قبل الياء من الكسرة فقالوا‏:‏ رأيت غلامَى‏.‏

فإن قيل‏:‏ لما تركوا الضمة هنا وهي علم للرفع أتبعوها الفتحة ليكون العمل من موضع واحد كما أنهم لما استكرهوا الواو بعد الياء نحو يعد حذفوها أيضاً بعد الهمزة والنون والتاء في نحو أعد ونعد وتعد قيل‏:‏ يفسد هذا من أوجه‏.‏

وذلك أن حروف المضارعة تجري مجرى الحرف الواحد من حيث كانت كلها متساوية في جعلها الفعل صالحاً لزمانين‏:‏ الحال والاستقبال فإذا وجب في أحدها شيء أتبعوه سائرها وليس كذلك علم الإعراب‏:‏ ألا ترى أن موضوع الإعراب على مخالفة بعضه بعضاً من حيث كان إنما جيء به دالاً على اختلاف المعاني‏.‏

فإن قلت‏:‏ فحروف المضارعة أيضاً موضوعة على اختلاف معانيها لأن الهمزة للمتكلم والنون للمتكلم إذا كان معه غيره وكذلك بقيتها قيل‏:‏ أجل إلا أنها كلها مع ذلك مجتمعة على معنى واحد وهو جعلها الفعل صالحاً للزمانين على ما مضى‏.‏

فإن قلت‏:‏ فالإعراب أيضاً كله مجتمع على جريانه على حرفه قيل‏:‏ هذا عمل لفظي والمعاني أشرف من الألفاظ‏.‏

وأيضاً فتركهم إظهار الألف قبل هذه الياء مع ما يعتقد من خفة الألف حتى إنه لم يسمع منهم نحو فاى ولا أباى ولا أخاى وإنما المسموع عنهم رأيت أبي وأخي وحكى سيبويه كَسَرت فِيَ أدل دليل على أنهم لم يراعوا حديث الاستخفاف والاستثقال حسب وأنه أمر غيرهما‏.‏

وهو اعتزامهم ألا تجيء هذه الياء إلا بعد كسرة أو ياء أو ألف لا تكون علماً للنصب‏:‏ نحو هذه عصاي وهذا مصلاي‏.‏

وعلى أن بعضهم راعى هذا الموضع أيضاً فقلب هذه الألف ياء فقال‏:‏ عصي ورحي ويا بشري ‏"‏ هذا غلام ‏"‏ وقال أبو داود‏:‏ فأبلوني بليتكم لعلي أصالحكم وأستدرج نويا وروينا أيضاً عن قطرب‏:‏ يطوف بي عكب في معد ويطعن بالصملة في قفيا وهو كثير‏.‏

ومن قال هذا لم يقل في هذان غلاماي‏:‏ ‏"‏ غلامَي ‏"‏ بقلب الألف ياء لئلا يذهب علم الرفع‏.‏

ومن المعلول بعلتين قولهم‏:‏ سيُ وريُ‏.‏

وأصله سوي وروي فانقلبت الواو ياء - إن شئت - لأنها ساكنة غير مدغمة وبعد كسرة و - إن شئت - لأنها ساكنة قبل الياء‏.‏

فهاتان علتان إحداهما كعلة قلب ميزان والأخرى كعلة طيا وليا مصدري طويت ولويت وكل واحدة منهما مؤثرة‏.‏

فهذا ونحوه أحد ضربي الحكم المعلول بعلتين الذي لا نظر فيه‏.‏

والآخر منهما ما فيه النظر وهو باب ما لا ينصرف‏.‏

وذلك أن علة امتناعه من الصرف إنما هي لاجتماع شبهين فيه من أشباه الفعل‏.‏

فأما السبب الواحد فيقل عن أن يتم علة بنفسه حتى ينضم إليه الشبه الآخر من الفعل‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإذا كان في الاسم شبه واحد من أشباه الفعل أله فيه تأثير أم لا فإن كان له فيه تأثير فماذا التأثير وهل صرف زيد إلا كصرف كلب وكعب وإن لم يكن للسبب الواحد إذا حل الاسم تأثير فيه فما باله إذا انضم إليه سبب آخر أثرا فيه فمعناه الصرف وهلا إذا كان السبب الواحد لا تأثير له فيه لم يؤثر فيه الآخر كما لم يؤثر فيه الأول وما الفرق بين الأول فالجواب أن السبب الواحد وإن لم يقو حكمه إلى أن يمنع الصرف فإنه لا بد في حال انفراده من تأثير فيما حله وذلك التأثير الذي نوميء إليه وندعي حصوله هو تصويره الاسم الذي حله على صورة ما إذا انضم إليه سبب آخر اعتونا معاً على منع الصرف ألا ترى أن الأول لو لم تجعله على هذه الصفة التي قدمنا ذكرها لكان مجيء الثاني مضموماً إليه لايؤثر أيضاً كما لم يؤثر الأول ثم كذلك إلى أن تفنى أسباب منع الصرف فتجتمع كلها فيه وهو مع ذلك منصرف‏.‏

لا بل دل تأثير الثاني على أن الأول قد كان شكل الاسم على صورة إذا انضم إليه سبب آخر انضم إليها مثلها وكان من مجموع الصورتين ما يوجب ترك الصرف‏.‏

فإن قلت‏:‏ ما تقول في اسم أعجمي علم في بابه مذكر متجاوز للثلاثة نحو يوسف وإبراهيم ونحن نعلم أنه الآن غير مصروف لاجتماع التعريف والعجمة عليه فلو سميت به من بعد مؤثناً ألست قد جمعت فيه بعد ما كان عليه - من التعريف والعجمة - التأنيث فليت شعري أبالأسباب الثلاثة منعته الصرف أم باثنتين منها فإن كان بالثلاثة كلها فما الذي زاد فيه التأنيث الطاريء عليه فإن كان لم يزد فيه شيئاً فقد رأيت أحد أشباه الفعل غير مؤثر وليس هذا من قولك‏.‏

وإن كان أثر فيه التأنيث الطاريء عليه شيئاً فعرفنا ما ذلك المعنى‏.‏

فالجواب هو أنه جعله على صورة ما إذا حذف منه سبب من أسباب الفعل بقي بعد ذلك غير مصروف أيضاً ألا تراك لو حذفت من يوسف اسم امرأةٍ التأنيث فأعدته إلى التذكير لأقررته أيضاً على ما كان عليه من ترك الصرف وليس كذلك امرأة سميتها بجعفر ومالك ألا تراك لو نزعت عن الاسم تأنيثه لصرفته لأنك لم تبق فيه بعد إلا شبهاً واحداً من أشباه الفعل‏.‏

فقد صار إذاً المعنى الثالث مؤثراً أثراً ما كما كان السبب الواحد مؤثراً أثراً ما على ما قدمنا ذكره فاعرف ذلك‏.‏

وأيضاً فإن ‏"‏ يوسف ‏"‏ اسم امرأة أثقل منه اسم رجل كما أن ‏"‏ عقرب ‏"‏ اسم امرأة أثقل من ‏"‏ هند ‏"‏ ألا تراك تجيز صرفها ولا تجيز صرف ‏"‏ عقرب ‏"‏ علماً‏.‏

فهذا إذاً معنى حصل ليوسف عند تسمية المؤنث به وهو معنى زائد بالشبه الثالث‏.‏

فأما قول من قال‏:‏ إن الاسم الذي اجتمع فيه سببان من أسباب منع الصرف فمنعه إذا انضم إلى ذلك ثالث امتنع من الإعراب أصلاً ففاسد عندنا من أوجه‏:‏ أحدها أن سبب البناء في الاسم ليس طريقه طريق حديث الصرف وترك الصرف إنما سببه مشابهة الاسم للحرف لا غير‏.‏

وأما تمثيله ذلك بمنع إعراب حذام وقطام وبقوله فيه‏:‏ إنه لما كان معدولاً عن حاذمة وقاطمة وقد كانتا معرفتين لا ينصرفان وليس بعد منع الصرف إلا ترك الإعراب البتة فلاحق في الفساد بما قبله لأنه منه وعليه حذاه‏.‏

وذلك أن علة منع هذه الإعراب إنما هو شيء أتاها من باب دراك ونزال ثم شبهت حذام وقطام ورقاش بالمثال والتعريف والتأنيث بباب دراك ونزال على ‏"‏ ما بيناه ‏"‏ هناك‏.‏

فأما أنه لأنه ليس بعد منع الصرف إلا رفع الإعراب أصلاً فلا‏.‏

ومما يفسد قول من قال‏:‏ إن الاسم إذا منعه السببان الصرف فإن اجتماع الثلاثة فيه ترفع عنه الإعراب أنا نجد في كلامهم من الأسماء ما يجتمع فيه خمسة أسباب من موانع الصرف وهو مع ذلك معرب غير مبني‏.‏

وذلك كامرأة سميتها ‏"‏ بأذربيجان ‏"‏ فهذا اسم قد اجتمعت فيه خمسة موانع‏:‏ وهو التعريف والتأنيث والعجمة والتركيب والألف والنون وكذلك إن عنيت ‏"‏ بأذربيجان ‏"‏ البلدة والمدينة لأن البلد فيه الأسباب الخمسة وهو مع ذلك معرب كما ترى‏.‏

فإذا كانت الأسباب الخمسة لا ترفع الإعراب فالثلاثة أحجى بألا ترفعه وهذا بيان‏.‏

ولتحامي الإطالة ما أحذف أطرافاً من القول على أن فيما يخرج إلى الظاهر كافياً بإذن الله‏.‏

  باب في إدراج العلة واختصارها

هذا موضع يستمر ‏"‏ النحويون عليه ‏"‏ فيفتق عليهم ما يتعبون بتداركه والتعذر منه‏.‏

وذلك كسائل سأل عن قولهم‏:‏ آسيت الرجل فأنا أواسيه وآخيته فأنا أواخيه فقال‏:‏ وما أصله فقلت‏:‏ أؤاسيه وأؤاخيه - وكذلك نقول - فيقول لك‏:‏ فما علته في التغيير فنقول‏:‏ اجتمعت الهمزتان فقلبت الثانية واواً لانضمام ما قبلها‏.‏

وفي ذلك شيئان‏:‏ أحدهما أنك لم تستوف ذكر الأصل والآخر أنك لم تتقص شرح العلة‏.‏

أما إخلالك بذكر حقيقية الأصل فلأن أصله ‏"‏ أؤاسوك ‏"‏ لأنه أفاعلك من الأسوة فقلبت الواو ياء لوقوعها طرفاً بعد الكسرة وكذلك أؤاخيك أصله ‏"‏ أؤاخوك ‏"‏ لأنه من الأخوة فانقلبت اللام لما ذكرنا كما تنقلب في نحو أعطِى واستقصِى‏.‏

وأما تقصي علة تغيير الهمزة بقلبها واواً فالقول فيه أنه اجتمع في كلمة واحدة همزتان غير عينين ‏"‏ الأولى منهما مضمومة والثانية مفتوحة ‏"‏ و ‏"‏ هي ‏"‏ حشو غير طرف فاستثقل ذلك فقلبت الثانية على حركة ما قبلها - وهي الضمة - واواً‏.‏

ولا بد من ذكر جميع ذلك وإلا أخللت ألا ترى أنك قد تجمع في الكلمة الواحدة بين همزتين فتكونان عينين فلا تغير ذلك وذلك نحو سآل ورآس وكبنائك من سألت نحو تبع فتقول‏:‏ ‏"‏ سؤل ‏"‏ فتصحان لأنهما عينان ألا ترى أن لو بنيت من قرأت مثل ‏"‏ جرشع ‏"‏ لقلت ‏"‏ قرء ‏"‏ وأصله قرؤؤ فقلبت الثانية ياء وإن كانت قبلها همزة مضمومة وكانتا في كلمة واحدة لما كانت الثانية منهما طرفاً لا حشواً‏.‏

وكذلك أيضاً ذكرك كونهما في كلمة واحدة ألا ترى أن من العرب من يحقق الهمزتين إذا كانتا من كلمتين نحو قول الله تعالى ‏{‏السُّفَهَاء أَلا‏}‏ فإذا كانتا في كلمة واحدة فكلهم يقلب نحو جاء وشاء ونحو خطايا وزوايا في قول الكافة غير الخليل‏.‏

فأما ما يحكى عن بعضهم من تحقيقهما في الكلمة الواحدة نحو أئمة وخطائيء ‏"‏ مثل خطاعع ‏"‏ وجائيء فشاذ لا يجوز أن يعقد عليه باب‏.‏

ولو اقتصرت في تعليل التغيير في ‏"‏ أؤاسيك ‏"‏ ونحوه على أن تقول‏:‏ اجتمعت الهمزتان في كلمة واحدة فقلبت الثانية واواً لوجب عليك أن تقلب الهمزة الثانية في نحو سأآل ورأآس واواً وأن تقلب همزة أأدم وأأمن واواً وأن تقلب الهمزة الثانية في خطائيء واواً‏.‏

ونحو ذلك كثير لا يحصى وإنما أذكر من كل نبذاً لئلا يطول الكتاب جداً‏.‏

  باب في دور الاعتلال هذا موضع طريف‏.‏

ذهب محمد بن يزيد في وجوب إسكان اللام في نحو ضربن وضربت إلى أنه لحركة ما بعده من الضمير‏:‏ يعني مع الحركتين قبل‏.‏

وذهب أيضاً في حركة الضمير من نحو هذا أنها إنما وجبت لسكون ما قبله‏.‏

فتارة اعتل لهذا بهذا ثم دار تارة أخرى فاعتل لهذا بهذا‏.‏

وفي ظاهر ذلك اعتراف بأن كل واحد منهما ليست له حال مستحقة تخصه في نفسه وإنما استقر على ما استقر عليه لأمر راجع إلى صاحبه‏.‏

ومثله ما أجازه سيبويه في جر ‏"‏ الوجه ‏"‏ من قولك‏:‏ هذا الحسن الوجه‏.‏

وذلك أنه أجاز فيه الجر من وجهين‏:‏ أحدهما طريق الإضافة الظاهرة والآخر تشبيهه بالضارب الرجل‏.‏

‏"‏ وقد أحطنا علماً بأن الجر إنما جاز في الضارب الرجل ‏"‏ ونحوه مما كان الثاني منهما منصوباً لتشبيههم إياه بالحسن الوجه أفلا ترى كيف صار كل واحد من الموضعين علة لصاحبه في الحكم الواحد الجاري عليهما جميعاً‏.‏

وهذا من طريف أمر هذه اللغة وشدة تداخلها وتزاحم الألفاظ والأغراض على جهاتها‏.‏

والعذر أن الجر لما فشا واتسع في نحو الضارب الرجل والشاتم الغلام والقاتل البطل صار - لتمكنه فيه وشياعه في استعماله - كأنه أصل في بابه وإن كان إنما سرى إليه لتشبيهه بالحسن الوجه‏.‏

فلما كان كذلك قوي في بابه حتى صار لقوته قياساً وسماعاً كأنه أصل للحر في ‏"‏ هذا الحسن الوجه ‏"‏ وسنأتي على بقية هذا الموضع في باب نفرده له بإذن الله‏.‏

لكن ما أجازه أبو العباس وذهب إليه في باب ضربن وضربت من تسكين اللام لحركة الضمير وتحريك الضمير لسكون اللام شنيع الظاهر والعذر فيه أضعف منه في مسئلة الكتاب ألا ترى أن الشيء لا يكون علة نفسه وإذا لم يكن كذلك كان من أن يكون علة علته أبعد وليس كذلك قول سيبويه وذلك أن الفروع إذا تمكنت ‏"‏ قويت قوة تسوغ ‏"‏ حمل الأصول عليها‏.‏

وذلك لإرادتهم تثبيت الفرع والشهادة له بقوة الحكم‏.‏

  باب في الرد على من اعتقد فساد علل النحويين لضعفه هو في نفسه عن إحكام العلة

اعلم أن هذا الموضع هو الذي يتعسف بأكثر من ترى‏.‏

وذلك أنه لا يعرف أغراض القوم فيرى لذلك أن ما أوردوه من العلة ضعيف واه ساقط غير متعال‏.‏

وهذا كقولهم‏:‏ يقول النحويون إن الفاعل رفع والمفعول به نصب وقد ترى الأمر بضد ذلك ألا ترانا نقول‏:‏ ضرب زيد فنرفعه وإن كان مفعولاً به ونقول‏:‏ إن زيداً قام فننصبه وإن كان فاعلاً ونقول‏:‏ عجبت من قيام زيد فنجره وإن كان فاعلاً ونقول أيضاً‏:‏ قد قال الله عز وجل ‏{‏وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ‏}‏ فرفع ‏"‏ حيث ‏"‏ وإن كان بعد حرف الخفض‏.‏

ومثله عندهم في الشناعة قوله - عز وجل - ‏{‏لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ‏}‏ وما يجري هذا المجرى‏.‏

ومثل هذا يتعب مع هذه الطائفة لا سيما إذا كان السائل عنه من يلزم الصبر عليه‏.‏

ولو بدأ الأمر بإحكام الأصل لسقط عنه هذا الهوس وذا اللغو ألا ترى أنه لو عرف أن الفاعل عند أهل العربية ليس كل من كان فاعلاً في المعنى وأن الفاعل عندهم إنما هو كل اسم ذكرته بعد الفعل وأسندت ونسبت ذلك الفعل إلى ذلك الاسم وأن الفعل الواجب وغير الواجب في ذلك سواء لسقط صداع هذا المضعوف السؤال‏.‏

وكذلك القول على المفعول أنه إنما ينصب إذا أسند الفعل إلى الفاعل فجاء هو فضلة وكذلك لو عرف أن الضمة في نحو حيث وقبل وبعد ليست إعراباً وإنما هي بناء‏.‏

وإنما ذكرت هذا الظاهر الواضح ليقع الاحتياط في المشكل الغامض‏.‏

وكذلك ما يحكى عن الجاحظ من أنه قال‏:‏ قال النحويون‏:‏ إن أفعل الذي مؤنثه فُعلى لا يجتمع فيه الألف واللام ومن وإنما هو بمن أو بالألف واللام نحو قولك‏:‏ الأفضل وأفضل منك والأحسن وأحسن من جعفر ثم قال‏:‏ وقد قال الأعشى‏:‏ فلست بالأكثر منهم حصى وإنما العزة للكاثر ورحم الله أبا عثمان أما إنه لو علم أن ‏"‏ من ‏"‏ في هذا البيت ليست التي تصحب أفعل للمبالغة نحو أحسن منك وأكرم منك لضرب عن هذا القول إلى غيره مما يعلو فيه قوله ويعنو لسداده وصحته خصمه‏.‏

وذلك أن ‏"‏ من ‏"‏ في بيت الأعشى إنما هي كالتي في قولنا‏:‏ أنت من الناس حر وهذا الفرس من الخيل كريم‏.‏

فكأنه قال‏:‏ لست من بينهم بالكثير الحصى ولست الاعتلال بالأفعال باب في الاعتلال لهم بأفعالهم ظاهر هذا الحديث طريف ومحصوله صحيح وذلك إذا كان الأول المردود إليه الثاني جارياً على ‏"‏ صحة علة ‏"‏‏.‏

من ذلك أن يقول قائل‏:‏ إذا كان الفعل قد حذف في الموضع الذي لو ظهر فيه لما أفسد معنى كان ترك إظهاره في الموضع الذي لو ظهر فيه لأحال المعنى وأفسده أولى وأحجى ألا ترى أنهم يقولون‏:‏ الذي في الدار زيد وأصله الذي استقر أو ثبت في الدار زيد ولو أظهروا هذا الفعل هنا لما أحال معنى ولا أزال غرضاً فكيف بهم في ترك إظهاره في النداء ألا ترى أنه لو تجشم إظهاره فقيل‏:‏ أدعو زيداً وأنادي زيداً لاستحال أمر النداء فصار إلى لفظ الخبر المحتمل للصدق والكذب والنداء مما لا يصح فيه تصديق ولا تكذيب‏.‏

ومن الاعتلال بأفعالهم أن تقول‏:‏ إذا كان اسم الفاعل - على قوة تحمله للضمير - متى جرى على غير من هو له - صفة أو صلة أو حالاً أو خبراً - لم يحتمل الضمير كما يحتمله الفعل فما ظنك بالصفة المشبهة باسم الفاعل نحو قولك‏:‏ زيد هند شديد عليها هو إذا أجريت ‏"‏ شديداً ‏"‏ خبراً عن ‏"‏ هند ‏"‏ وكذلك قولك‏:‏ أخواك زيد حسن في عينه هما والزيدون هند ظريف في نفسها هم وما ظنك أيضاً بالشفة المشبهة ‏"‏ بالصفة المشبهة ‏"‏ باسم الفاعل نحو قولك‏:‏ أخوك جاريتك أكرم عليها من عمرو هو وغلاماك أبوك أحسن عنده من جعفر هما والحجر الحية أشد عليها من العصا هو‏.‏

ومن قال‏:‏ مررت برجل أبي عشرة أبوه قال‏:‏ أخواك جاريتهما أبو عشرة عندها هما فأظهرت الضمير‏.‏

وكان ذلك أحسن من رفعه الظاهر لأن هذا الضمير وإن كان منفصلاً ومشبهاً للظاهر بانفصاله فإنه على كل حال ضمير‏.‏

وإنما وحدت فقلت‏:‏ أبو عشرة عندها هما ولم تثنه فتقول‏:‏ أبوا عشرة من قبل أنه قد رفع ضميراً منفصلاً مشابهاً للظاهر فجرى مجرى قولك‏:‏ مررت برجل أبي عشرة أبواه‏.‏

فلما رفع الظاهر وما يجري مجرى الظاهر شبهه بالفعل فوحد البتة‏.‏

ومن قال‏:‏ مررت برجل قائمين أخواه فأجراه مجرى قاما أخواه فإنه يقول‏:‏ مررت برجل أبوي عشرة أبواه‏.‏

والتثنية في ‏"‏ أبوي عشرة ‏"‏ من وجه تقوى ومن آخر تضعف‏.‏

أما وجه القوة فلأنها بعيدة عن اسم الفاعل الجاري مجرى الفعل فالتثنية فيه - لأنه اسم - حسنة وأما وجه الضعف فلأنه على كل حال قد أعمل في الظاهر ولم يعمل إلا لشبهه بالفعل وإذا كان كذلك وجب له أن يقوى شبه الفعل ليقوم العذر بذلك في إعماله عمله ألا ترى أنهم لما شبهوا الفعل باسم الفاعل فأعربوه كنفوا هذا المعنى بينهما وأيدوه بأن شبهوا اسم الفاعل بالفعل فأعملوه‏.‏

وهذا في معناه واضح سديد كما تراه‏.‏

وأمثال هذا في الاحتجاج لهم بأفعالهم كثيرة وإنما أضع من كل شيء رسماً ما ليحتذى‏.‏

فأما الإطالة والاستيعاب فلا‏.‏

  باب في الاحتجاج بقول المخالف

اعلم أن هذا - على ما في ظاهره - صحيح ومستقيم‏.‏

وذلك أن ينبغ من أصحابه نابغ فينشيء خلافاً ما على أهل مذهبه فإذا سمع خصمه به وأجلب عليه قال‏:‏ هذا لا يقول به أحد من الفريقين فيخرجه مخرج التقبيح له والتشنيع عليه‏.‏

وذلك كإنكار أبي العباس جواز تقديم خبر ليس عليها فأحد ما يحتج به عليه أن يقال له‏:‏ إجازة هذا مذهب سيبويه وأبي الحسن وكافة أصحابنا والكوفيون أيضاً معنا‏.‏

فإذا كانت إجازة ذلك مذهباً للكافة من البلدين وجب عليك - يا أبا العباس - أن تنفر عن خلافه وتستوحش منه ولا تأنس بأول خاطر يبدو لك فيه‏.‏

ولعمري إن هذا ليس بموضع قطع على الخصم إلا أن فيه تشنيعاً عليه وإهابة به إلى تركه وإضافة لعذره في استمراره عليه وتهالكه فيه من غير إحكامه وإنعام الفحص عنه‏.‏

وإنما لم يكن فيه قطع لأن للإنسان أن يرتجل من المذاهب ما يدعو إليه القياس ما لم يلو بنص أو ينتهك حرمة شرع‏.‏

فقس على ما ترى فإنني إنما أضع من كل شيء مثالاً موجزاً‏.‏

  باب القول على إجماع أهل العربية متى يكون حجة

اعلم أن إجماع أهل البلدين إنما يكون حجة إذا أعطاك خصمك يده ألا يخالف المنصوص‏.‏

والمقيس على النصوص فأما إن لم يعط يده بذلك فلا يكون إجماعهم حجة عليه‏.‏

وذلك أنه لم يرد ممن يطاع أمره في قرآن ولا سنة أنهم لا يجتمعون على الخطأ كما جاء النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله‏:‏ ‏(‏ أمتي لا تجتمع على ضلالة ‏)‏ وإنما هو علم منتزع من استقراء هذه اللغة‏.‏

فكل من فرق له عن علة صحيحة وطريق نهجة كان خليل نفسه وأبا عمرو فكره‏.‏

إلا أننا - مع هذا الذي رأيناه وسوغناه مرتكبة - لا نسمح له بالإقدام على مخالفة الجماعة التي قد طال بحثها وتقدم نظرها وتتالت أواخر على أوائل وأعجازاً على كلاكل والقوم الذين لا نشك في أن الله - سبحانه وتقدست أسماؤه - قد هداهم لهذا العلم الكريم وأراهم وجه الحكمة في الترجيب له والتعظيم وجعله ببركاتهم وعلى أيدي طاعاتهم خادماً للكتاب المنزل وكلام نبيه المرسل وعوناً على فهمهما ومعرفة ما أمر به أو نهي عنه الثقلان منهما إلا بعد أن يناهضه إتقاناً ويثابته عرفاناً ولا يخلد إلى سانح خاطره ولا إلى نزوة من نزوات تفكره‏.‏

فإذا هو حذا على هذا المثال وباشر بإنعام تصفحه أحناء الحال أمضى الرأي فيما يريه الله منه غير معاز به ولا غاض من السلف - رحمهم الله - في شيء منه‏.‏

فإنه إذا فعل ذلك سدد رأيه‏.‏

وشيع خاطره وكان بالصواب مئنة ومن التوفيق مظنة وقد قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ‏:‏ ما على الناس شيء أضر من قولهم‏:‏ ما ترك الأول للآخر شيئاً‏.‏

وقال أبو عثمان المازني‏:‏ ‏"‏ وإذا قال العالم قولاً متقدماً فللمتعلم الاقتداء به والانتصار له والاحتجاج لخلافه إن وجد إلى ذلك سبيلاً ‏"‏ وقال الطائي الكبير‏:‏ يقول من تطرق أسماعه كم ترك الأول للآخر‏!‏ فمما جاز خلاف الإجماع الواقع فيه منذ بديء هذا العلم وإلى آخر هذا الوقت ما رأيته أنا في قولهم‏:‏ هذا جحر ضب خرب‏.‏

فهذا يتناوله آخر عن أول وتال عن ماض على أنه غلط من العرب لا يختلفون فيه ولا يتوقفون عنه وأنه من الشاذ الذي لا يحمل عليه ولا يجوز رد غيره إليه‏.‏

وأما أنا فعندي أن في القرآن مثل هذا الموضع نيفاً على ألف موضع‏.‏

وذلك أنه على حذف المضاف لا غير‏.‏

فإذا حملته على هذا الذي هو حشو الكلام من القرآن والشعر ساغ وسلس وشاع وقبل‏.‏

وتلخيص هذا أن أصله‏:‏ هذا جحر ضب خربٍ جحره فيجري ‏"‏ خرب ‏"‏ وصفاً على ‏"‏ ضب ‏"‏ وإن كان في الحقيقة للجحر‏.‏

كما تقول مررت برجل قائم أبوه فتجري ‏"‏ قائماً وصفاً على ‏"‏ رجل ‏"‏ وإن كان القيام للأب لا للرجل لما ضمن من ذكره‏.‏

والأمر في هذا أظهر من أن يؤتى بمثال له أو شاهد عليه‏.‏

فلما كان أصله كذلك حذف الجحر المضاف إلى الهاء وأقيمت الهاء مقامه فارتفعت لأن المضاف المحذوف كان مرفوعاً فلما ارتفعت استتر الضمير المرفوع في نفس ‏"‏ خرب ‏"‏ فجرى وصفاً على ضب - وإن كان الخراب للجحر لا للضب - على تقدير حذف المضاف على ما أرينا‏.‏

وقلت آية تخلو من حذف المضاف نعم وربما كان في الآية الواحدة من ذلك عدة مواضع‏.‏

وعلى نحو من هذا حمل أبو علي رحمه الله‏:‏ كبير أناس في بجاد مزمل ولم يحمله على الغلط قال‏:‏ لأنه أراد‏:‏ مزمل فيه ثم حذف حرف الجر فارتفع الضمير فاستتر في اسم المفعول‏.‏

فإذا أمكن ما قلنا ولم يكن أكثر من حذف المضاف الذي قد شاع واطرد كان حمله عليه أولى من حمله على الغلط الذي لا يحمل غيره عليه ولا يقاس به‏.‏

أو مذهب جدد على ألواحه الناطق المبروز والمختوم أي المبروز به ثم حذف حرف الجر فارتفع الضمير فاستتر في اسم المفعول‏.‏

وعليه قول الآخر‏:‏ إلى غير موثوق من الأرض تذهب أي موثوق به ثم حذف حرف الجر فارتفع الضمير فاستتر في اسم المفعول‏.‏

  باب في الزيادة في صفة العلة لضرب من الاحتياط

قد يفعل أصحابنا ذلك إذا كانت الزيادة مثبتة لحال المزيد عليه‏.‏

وذلك كقولك في همز ‏"‏ أوائل ‏"‏‏:‏ أصله ‏"‏ أواول ‏"‏ فلما اكتنفت الألف واوان وقربت الثانية منهما من الطرف ولم يؤثر إخراج ذلك على الأصل تنبيهاً على غيره من المغيرات في معناه ولا هناك ياء قبل الطرف منوية مقدرة وكانت الكلمة جمعاً ثقل ذلك فأبدلت الواو همزة فصار أوائل‏.‏

فجميع ما أوردته محتاج إليه إلا ما استظهرت به من قولك‏:‏ وكانت الكلمة جمعاً فإنك لو لم تذكره لم يخلل ذلك بالعلة ألا ترى أنك لو بنيت من قلت وبعت واحداً على فواعل كعوارض أو أفاعل ‏"‏ من أول أو يوم أو ويح ‏"‏ كأباتر لهمزت كما تهمز في الجمع‏.‏

فذكرك الجمع في أثناء الحديث إنما زدت الحال به أنساً من حيث كان الجمع في غير هذا مما يدعو إلى قلب الواو ياء في نحو حقي ودلي فذكرته هنا تأكيداً لا وجوباً‏.‏

وذكراك أنهم لم يؤثروا في هذا إخراج الحرف على أصله دلالة على أصل ما غير من غيره في نحوه لئلا يدخل عليك أن يقال لك‏:‏ قد قال الراجز‏:‏ تسمع من شدانها عواولا وذكرت أيضاً قولك‏:‏ ولم يكن هناك ياء قبل الطرف مقدرة لئلا يلزمك قوله‏:‏ وكحل العينين بالعواور ألا ترى أن أصله عواوير من حيث كان جمع عوار‏.‏

والاستظهار في هذين الموضعين أعني حديث عواول وعواور أسهل احتمالاً من دخولك تحت الإفساد عليك بهما واعتذارك من بعد بما قدمته في صدر العلة‏.‏

فإذا كان لا بد من إيراده فيما بعد إذا لم تحتط بذكره فيما قبل كان الرأي تقديم ذكره والاستراحة من التعقب عليك به‏.‏

فهذا ضرب‏.‏

ولو استظهرت بذكر ما لا يؤثر في الحكم لكان ذلك منك خطلاً ولغواً من القول ألا ترى أنك لو سئلت عن رفع طلحة من قولك‏:‏ جاءني طلحة فقلت‏:‏ ارتفع لإسناد الفعل إليه ولأنه مؤنث أو لأنه علم لم يكن ذكرك التأنيث والعلمية إلا كقولك‏:‏ ولأنه مفتوح الطاء أو لأنه ساكن عين الفعل ونحو ذلك مما لا يؤثر في الحال‏.‏

فاعرف بذلك موضع ما يمكن الاحتياط به للحكم مما فإن قيل‏:‏ هلا كان ذكرك أنت أيضاً هنا الفعل لا وجه له ألا ترى أنه إنما ارتفع بإسناد غيره إليه فاعلاً كان أو مبتدأ‏.‏

والعلة في رفع الفاعل هي العلة في رفع المبتدأ وإن اختلفا من جهة التقديم والتأخير قلنا‏:‏ لا لسنا نقول هكذا مجرداً وإنما نقول في رفع المبتدأ‏:‏ إنه إنما وجب ذلك له من حيث كان مسنداً إليه عارياً من العوامل اللفظية قبله فيه وليس كذلك الفاعل لأنه وإن كان مسنداً إليه فإن قبله عاملاً لفظياً قد عمل فيه وهو الفعل وليس كذلك قولنا‏:‏ زيد قام لأن هذا لم يرتفع لإسناد الفعل إليه حسب دون أن انضم إلى ذلك تعريه من العوامل اللفظية من قبله‏.‏

فلهذا قلنا‏:‏ ارتفع الفاعل بإسناد الفعل إليه ولم نحتج فيما بعد إلى شيء نذكره كما احتجنا إلى ذلك في باب المبتدأ ألا تراك تقول‏:‏ إن زيداً قام فتنصبه - وإن كان الفعل مسنداً إليه - لما لم يعر من العامل اللفظي الناصبه‏.‏

فقد وضح بذلك فرق ما بين حالي المبتدأ والفاعل في وصف تعليل ارتفاعهما وأنهما وإن اشتركا في كون كل واحد منهما مسنداً إليه فإن هناك فرقاً من حيث أرينا‏.‏

ومن ذلك قولك في جواب من سألك عن علة انتصاب زيد من قولك‏:‏ ضربت زيداً‏:‏ إنه إنما انتصب لأنه فضلة ومفعول به فالجواب قد استقل بقولك‏:‏ لأنه فضلة وقولك من بعد‏:‏ ‏"‏ ومفعول به ‏"‏ تأنيس وتأييد لا ضرورة بك إليه ألا ترى أنك تقول في نصب ‏"‏ نفس ‏"‏ من قولك‏:‏ طبت به نفساً‏:‏ إنما انتصب لأنه فضلة وإن كانت النفس هنا فاعلة في المعنى‏.‏

فقد علمت بذلك أن قولك‏:‏ ومفعول به زيادة على العلة تطوعت بها‏.‏

غير أنه في ذكرك كونه مفعولاً معنى ما وإن كان صغيراً‏.‏

وذلك أنه قد ثبت وشاع في الكلام أن الفاعل رفع والمفعول به نصب وكأنك أنست بذلك شيئاً‏.‏

وأيضاً فإن فيه ضرباً من الشرح‏.‏

وذلك أن كون الشيء فضلة لا يدل على أنه لا بد من أن يكون مفعولاً به ألا ترى أن الفضلات كثيرة كالمفعول به والظرف والمفعول له والمفعول معه والمصدر والحال والتمييز والاستثناء‏.‏

فلما قلت‏:‏ ومفعول به ميزت أي الفضلات هو‏.‏

فاعرف ذلك وقسه‏.‏

  باب في عدم النظير

أما إذا دل الدليل فإنه لا يجب إيجاد النظير‏.‏

وذلك مذهب الكتاب فإنه حكى فيما جاء على فِعِلٍ ‏"‏ إبلا ‏"‏ وحدها ولم يمنع الحكم بها عنده أن لم يكن لها نظير لأن إيجاد النظير بعد قيام الدليل إنما هو للأنس به لا للحاجة إليه‏.‏

فأما إن لم يقم دليل فإنك محتاج إلى إيجاد النظير ألا ترى إلى عِزويت لما لم يقم الدليل على أن واوه وتاءه أصلان احتجت إلى التعلل بالنظير فمنعت من أن يكون فِعويلا لما لم تجد له نظيراً وحملته على فِعليت لوجود النظير وهو عفريت ونفريت‏.‏

وكذلك قال أبو عثمان في الرد على من ادعى أن السين وسوف ترفعان الأفعال المضارعة‏:‏ لم نر عاملاً في الفعل تدخل عليه اللام وقد قال سبحانه ‏{‏فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

فجعل عدم النظير رداً على من أنكر قوله‏.‏

وأما إن لم يقم الدليل ولم يوجد النظير فإنك تحكم مع عدم النظير‏.‏

وذلك كقولك في الهمزة والنون من أندلس‏:‏ إنهما زائدتان وإن وزن الكلمة بهما ‏"‏ أنفعُل ‏"‏ وإن كان مثالاً لا نظير له‏.‏

وذلك أن النون لا محالة زائدة لأنه ليس في ذوات الخمسة شيء على ‏"‏ فعلَلُل ‏"‏ فتكون النون فيه أصلاً لوقوعها موقع العين وإذا ثبت أن النون زائدة فقد برد في يدك ثلاثة أحرف أصول وهي الدال واللام والسين وفي أول الكلمة همزة ومتى وقع ذلك حكمت بكون الهمزة زائدة ولا تكون النون أصلاً والهمزة زائدة لأن ذوات الأربعة لا تلحقها الزوائد من أوائلها إلا في الأسماء الجارية على أفعالها نحو مدحرج وبابه‏.‏

فقد وجب إذاً أن الهمزة والنون زائدتان وأن الكلمة بهما على أنفعل وإن كان هذا مثالاً لا نظير له‏.‏

فإن ضام الدليل النظير فلا مذهب بك عن ذلك وهذا كنون عنتر‏.‏

فالدليل يقضي بكونها أصلاً لأنها مقابلة لعين جعفر والمثال أيضاً معك وهو ‏"‏ فعلَل ‏"‏ وكذلك القول على بابه‏.‏

فاعرف ذلك وقس‏.‏

  باب في إسقاط الدليل

وذلك كقول أبي عثمان‏:‏ لا تكون الصفة غير مفيدة فلذلك قلت‏:‏ مررت برجل أفعل‏.‏

فصرف أفعل هذه لما لم تكن الصفة مفيدة‏.‏

وإسقاط هذا أن يقال له‏:‏ قد جاءت الصفة غير مفيدة‏.‏

وذلك كقولك في جواب من قال رأيت زيداً‏:‏ آلمنيّ يا فتى فالمنيّ صفة وغير مفيدة‏.‏

ومن ذلك قول البغداديين‏:‏ إن الاسم يرتفع بما يعود عليه من ذكره نحو زيد مررت به وأخوك أكرمته‏.‏

فارتفاعه عندهم إنما هو لأن عائداً عاد عليه فارتفع بذلك العائد‏.‏

وإسقاط هذا الدليل أن يقال لهم‏:‏ فنحن نقول‏:‏ زيد هل ضربته وأخوك متى كلمته ومعلوم أن ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله فكما اعتبر أبو عثمان أن كل صفة فينبغي أن تكون مفيدة فأوجد أن من الصفات ما لا يفيد وكان ذلك كسراً لقوله كذلك قول هؤلاء‏:‏ إن كل عائد على اسم عار من العوامل يرفعه يفسده وجود عائد على اسم عار من العوامل وهو غير رافع له فهذا طريق هذا‏.‏

  باب في اللفظين على المعنى الواحد يردان عن العالم متضادين

وذلك عندنا على أوجه‏:‏ احدها أن يكون أحدهما مرسلاً والآخر معللاً‏.‏

فإذا اتفق ذلك كان المذهب الأخذ بالمعلل ووجب مع ذلك أن يتأول المرسل‏.‏

وذلك كقول صاحب الكتاب - في غير موضع - في التاء من ‏"‏ بنت وأخت ‏"‏‏:‏ إنها للتأنيث وقال أيضاً مع ذلك في باب ما ينصرف وما لا ينصرف‏:‏ إنها ليست للتأنيث‏.‏

واعتل لهذا القول بأن ما قبلها ساكن وتاء التأنيث في الواحد لا يكون ما قبلها ساكناً إلا أن يكون ألفاً كقناة وفتاة وحصاة والباقي كله مفتوح كرطبة وعنبة وعلامة ونسابة‏.‏

قال‏:‏ ولو سميت رجلاً ببنت وأخت لصرفته‏.‏

وهذا واضح‏.‏

فإذا ثبت هذا القول الثاني بما ذكرناه وكانت التاء فيه إنما هي عنده على ما قاله بمنزلة تاء ‏"‏ عفريت ‏"‏ و ‏"‏ ملكوت ‏"‏ وجب أن يحمل قوله فيها‏:‏ إنها للتأنيث على المجاز وأن يتأول ولا يحمل القولان على التضاد‏.‏

ووجه الجمع بين القولين أن هذه التاء وإن لم تكن عنده للتأنيث فإنها لما لم توجد في الكلمة إلا في حال التأنيث استجاز أن يقول فيها‏:‏ إنها للتأنيث ألا ترى أنك إذا ذكرت قلت ‏"‏ ابن ‏"‏ فزالت التاء كما تزول التاء من قولك‏:‏ ابنة‏.‏

فلما ساوقت تاء بنت تاء ابنة وكانت تاء ابنة للتأنيث قال في تاء بنت ما قال في تاء ابنة‏.‏

وهذا من أقرب ما يتسمح به في هذه الصناعة ألا ترى أنه قال في عدة مواضع في نحو ‏"‏ حمراء ‏"‏ و ‏"‏ أصدقاء ‏"‏ و ‏"‏ عشراء ‏"‏ وبابها‏:‏ إن الألفين للتأنيث وإنما صاحبة التأنيث منهما الأخيرة التي قلبت همزة لا الأولى وإنما الأولى زيادة لحقت قبل الثانية التي هي كألف ‏"‏ سكرى ‏"‏ و ‏"‏ عطشى ‏"‏ فلما التقت الألفان وتحركت الثانية قلبت همزة‏.‏

ويدل على أن الثانية للتأنيث وأن الأولى ليست له أنك لو اعتزمت إزالة العلامة للتأنيث في هذا الضرب من الأسماء غيرت الثانية وحدها ولم تعرض للأولى‏.‏

وذلك قولهم ‏"‏ حمراوان ‏"‏ و ‏"‏ عشراوات ‏"‏ و ‏"‏ صحراوي ‏"‏‏.‏

وهذا واضح‏.‏

قال أبو علي رحمه الله‏:‏ ليس بنت من ابن كصعبة من صعب إنما تأنيث ابن على لفظه ابنة‏.‏

والأمر على ما ذكر‏.‏

فإن قلت‏:‏ فهل في بنت وأخت علم تأنيث أو لا قيل‏:‏ بل فيهما علم تأنيث‏.‏

فإن قيل‏:‏ وما ذلك العلم قيل‏:‏ الصيغة ‏"‏ فيهما علامة تأنيثهما ‏"‏ وذلك أن أصل هذين الاسمين عندنا فعل‏:‏ بنو وأخو بدلالة تكسيرهم إياهما على أفعال في قولهم‏:‏ أبناء وآخاء‏.‏

قال بشر بن المهلب‏:‏ فلما عدلاعن فَعل إلى فِعل وفُعل وأبدلت لاماهما تاء فصارتا بنتا وأختا كان هذا العمل وهذه الصيغة علماً لتأنيثهما ألا تراك إذا فارقت هذا الموضع من التأنيث رفضت هذه الصيغة البتة فقلت في الإضافة إليهما‏:‏ بنوي وأخوي كما أنك إذا أضفت إلى ما فيه علامة تأنيث أزلتها البتة نحو حمراوي وطلحي وحبلوي‏.‏

فأما قول يونس‏:‏ بنتي وأختي فمردود عند سيبويه‏.‏

وليس هذا الموضع موضوعاً للحكم بينهما وإن كان لقول يونس أصول تجتذبه وتسوغه‏.‏

وكذلك إن قلت‏:‏ إذا كان سيبويه لا يجمع بين ياءي الإضافة وبين صيغة بنت وأخت من حيث كانت الصيغة علماً لتأنيثهما فلم صرفهما علمين لمذكر وقد أثبت فيهما علامة تأنيث بفكها ونقضها مع ما لا يجامع علامة التأنيث‏:‏ من ياءي الإضافة في بنوي وأخوي فإذا أثبت في الاسمين بها علامة للتأنيث فهلا منع الاسمين الصرف بها مع التعريف كما تمنع الصرف باجتماع التأنيث إلى التعريف في نحو طلحة وحمزة وبابهما فإن هذا أيضاً مما قد أجبنا عنه في موضع آخر‏.‏

وكذلك القول في تاء ثنتان وتاء ذيت وكيت وكلتى‏:‏ التاء في جميع ذلك بدل من حرف علة كتاء بنت وأخت وليست للتأنيث‏.‏

إنما التاء في ذية وكية واثنتان وابنتان للتأنيث‏.‏

فإن قلت‏:‏ فمن أين لنا في علامات التأنيث ما يكون معنى لا لفظاً قيل‏:‏ إذا قام الدليل لم يلزم النظير‏.‏

وأيضاً فإن التاء في هذا وإن لم تكن للتأنيث فإنها بدل خص التأنيث والبدل وإن كان كالأصل لأنه بدل منه فإن له أيضاً شبهاً بالزائد من موضع آخر وهو كونه غير أصل كما أن الزائد غير أصل ألا ترى إلى ما حكاه عن أبي الخطاب من قول بعضهم في راية‏:‏ راءة بالهمز كيف شبه ألف راية - وإن كانت بدلاً من العين - بالألف الزائدة فهمز اللام بعدها كما يهمزها بعد الزائدة في نحو سقاء وقضاء‏.‏

وأما قول أبي عمر‏:‏ إن التاء في كلتى زائدة وإن مثال الكلمة بها ‏"‏ فِعتل ‏"‏ فمردود عند أصحابنا لما قد ذكر في معناه من قولهم‏:‏ إن التاء لا تزاد حشواً إلا في ‏"‏ افتعل ‏"‏ وما تصرف منه ‏"‏ و ‏"‏ لغير ذلك غير أني قد وجدت لهذا القول نحواً ونظيراً‏.‏

وذلك فيما حكاه الأصمعي من قولهم للرجل القواد‏:‏ الكلتبان وقال مع ذلك‏:‏ هو من الكَلَب وهو القيادة‏.‏

فقد ترى التاء على هذا زائدة حشواً ووزنه فعتلان‏.‏

ففي هذا شيئان‏:‏ أحدهما التسديد من قول أبي عمر والآخر إثبات مثال فائت للكتاب‏.‏

وأمثل ما يصرف إليه ذلك أن يكون الكلب ثلاثياً والكلتبان رباعياً كزرم وازرأم وضفد واضفأد وكزغَّب الفرخ وازلَغب ونحو ذلك من الأصلين الثلاثي والرباعي المتداخلين‏.‏

وهذا غور عرض فقلنا فيه ولنعد‏.‏

ومن ذلك أن يرد اللفظان عن العالم متضادين على غير هذا الوجه‏.‏

وهو أن يحكم في شيء بحكم ما ثم يحكم فيه نفسه بضده غير أنه لم يعلل أحد القولين‏.‏

فينبغي حينئذ أن ينظر إلى الأليق بالمذهب والأجرى على قوانينه فيجعل هو المراد المعتزم منهما ويتأول الآخر إن أمكن‏.‏

وذلك كقوله‏:‏ حتى الناصبة للفعل وقد تكرر من قوله أنها حرف من حروف الجر وهذا ناف لكونها ناصبة له من حيث كانت عوامل الأسماء لا تباشر الأفعال فضلاً عن أن تعمل فيها‏.‏

وقد استقر من قوله في غير مكان ذكر عدة الحروف الناصبة للفعل وليست فيها حتى‏.‏

فعلم بذلك وبنصه عليه في غير هذا الموضع أن ‏"‏ أن ‏"‏ مضمرة عنده بعد حتى كما تضمر مع اللام الجارة في نحو قوله سبحانه ‏{‏لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ‏}‏ ونحو ذلك‏.‏

فالمذهب إذاً هو هذا‏.‏

ووجه القول في الجمع بين القولين بالتأويل أن الفعل لما انتصب بعد حتى ولم تظهر هناك ‏"‏ أن ‏"‏ وصارت حتى عوضاً منها ونائبة عنها نسب النصب إلى ‏"‏ حتى ‏"‏ وإن كان في الحقيقة ل ‏"‏ أن ‏"‏‏.‏

ومثله معنى لا إعراباً قول الله سبحانه‏:‏ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى فظاهر هذا تناف بين الحالتين لأنه أثبت في أحد القولين ما نفاه قبله‏:‏ وهو قوله ما رميت إذ رميت‏.‏

ووجه الجمع بينهما أنه لما كان الله أقدره على الرمي ومكنه منه وسدده له وأمره به فأطاعه في فعله نسب الرمي إلى الله وإن كان مكتسباً للنبي صلى الله عليه وسلم مشاهداً منه‏.‏

ومثله معنىً قولهم‏:‏ أذن ولم يؤذن وصلى ولم يصل ليس أن الثاني ناف للأول لكنه لما لم يعتقد الأول مجزئاً لم يثبته صلاة ولا أذاناً‏.‏

وكلام العرب لمن عرفه وتدرب بطريقها فيه جار مجرى السحر لطفاً وإن جسا عنه أكثر من ترى وجفا‏.‏

ومن ذلك أن يرد اللفظان عن العالم متضادين غير أنه قد نص في أحدهما على الرجوع عن القول الآخر فيعلم بذلك أن رأيه مستقر على ما أثبته ولم ينفه وأن القول الآخر مطرح من رأيه‏.‏

فإن تعارض القولان مرسلين غير مبان أحدهما من صاحبه بقاطع يحكم عليه به بحث عن تاريخهما فعلم أن الثاني هو ما اعتزمه وأن قوله به انصراف منه عن القول الأول إذ لم يوجد في أحدهما ما يماز به عن صاحبه‏.‏

فإن استبهم الأمر فلم يعرف التاريخ وجب سبر المذهبين وإنعام الفحص عن حال القولين‏.‏

فإن كان أحدهما أقوى من صاحبه وجب إحسان الظن بذلك العالم وأن ينسب إليه أن الأقوى منهما هو قوله الثاني الذي به يقول وله يعتقد وأن الأضعف منهما هو الأول منهما الذي تركه إلى الثاني‏.‏

فإن تساوى القولان في القوة وجب أن يعتقد فيهما أنهما رأيان له فإن الدواعي إلى تساوي القولان في القوة وجب أن يعتقد فيهما أنهما رأيان له فإن الدواعي إلى تساويهما فيهما عند الباحث عنهما هي الدواعي التي دعت القائل بهما إلى أن اعتقد كلاً منهما‏.‏

هذا بمقتضى العرف وعلى إحسان الظن فأما القطع البات فعند الله علمه‏.‏

وعليه طريق الشافعي في قوله بالقولين فصاعداً‏.‏

وقد كان أبو الحسن ركاباً لهذا الثبج آخذاً به غير محتشم منه وأكثر كلامه في عامة كتبه عليه‏.‏

‏"‏ وكنت إذا ألزمت عند أبي علي - رحمه الله - قولاً لأبي الحسن شيئاً لا بد للنظر من إلزامه إياه يقول لي‏:‏ مذاهب أبي الحسن كثيرة ‏"‏‏.‏

ومن الشائع في الرجوع عنه من المذاهب ما كان أبو العباس تتبع به كلام سيبويه وسماه مسائل الغلط‏.‏

فحدثني أبو علي عن أبي بكر أن أبا العباس كان يعتذر منه ويقول‏:‏ هذا شيء كنا رأيناه في أيام الحداثة فأما الآن فلا‏.‏

وحدثنا أبو علي قال‏:‏ كان أبو يوسف إذا أفتى بشيء أو أمل شيئاً فقيل له‏:‏ قد قلت في موضع كذا غير هذا يقول‏:‏ هذا يعرفه من يعرفه أي إذا أنعم النظر في القولين وجدا مذهباً واحداً‏.‏

وكان أبو علي - رحمه الله - يقول في هيهات‏:‏ أنا أفتي مرة بكونها اسماً سمي به الفعل كصه ومه وأفتى مرة أخرى بكونها ظرفاً على قدر ما يحضرني في الحال‏.‏

وقال مرة أخرى‏:‏ إنها وإن كانت ظرفاً فغير ممتنع أن تكون مع ذلك اسماً سمي به الفعل كعندك ودونك‏.‏

وكان إذا سمع شيئاً من كلام أبي الحسن يخالف قوله يقول‏:‏ عكر الشيخ‏.‏

وهذا ونحوه من خلاج الخاطر وتعادي المناظر هو الذي دعا اقواماً إلى أن قالوا بتكافؤ الأدلة واحتملوا أثقال الصغار والذلة‏.‏

وحدثني أبو علي‏:‏ قال‏:‏ قلت لأبي عبد الله البصري‏:‏ أنا أعجب من هذا الخاطر في حضوره تارة ومغيبه اخرى‏.‏

وهذا يدل على أنه من عند الله‏.‏

فقال‏:‏ نعم هو من عند الله إلا أنه لا بد من تقديم النظر ألا ترى أن حامداً البقال لا يخطر له‏.‏

ومن طريف حديث هذا الخاطر أنني كنت منذ زمان طويل رأيت رأياً جمعت فيه بين معنى آية ومعنى قول الشاعر‏:‏ وكنت أمشي على رجلين معتدلا فصرت أمشي على أخرى من الشجر ولم أثبت حينئذ شرح حال الجمع بينهما ثقة بحضوره متى استحضرته ثم إني الآن - وقد مضى له سنون - أعان الخاطر وأستثمده وأفانيه وأتودده على أن يسمح لي بما كان أرانيه من الجمع بين معنى الآية والبيت وهو معتاص متأب وضنين به غير معط‏.‏

وكنت وأنا أنسخ التذكرة لأبي علي إذا مر بي شيء قد كنت رأيت طرفاً منه أو ألممت به فيما قبل أقول له‏:‏ قد كنت شارفت هذا الموضع وتلوح لي بعضه ولم أنته إلى آخره وأراك أنت قد جئت به واستوفيته وتمكنت فيه فيبتسم - رحمه الله - له ويتطلق إليه سروراً وقلت مرة لأبي بكر أحمد بن علي الرازي - رحمه الله - وقد أفضنا في ذكر أبي علي ونبل قدره ونباوة محله‏:‏ أحسب أن أبا علي قد خطر له وانتزع من علل هذا العلم ثلث ما وقع لجميع أصحابنا فأصغى أبو بكر إليه ولم يتبشع هذا القول عليه‏.‏

وإنما تبسطت في هذا الحديث ليكون باعثاً على إرهاف الفكر واستحضار الخاطر والتطاول إلى ما أوفى نهده وأوعر سمته وبالله سبحانه الثقة‏.‏

  باب في الدور والوقوف منه على أول رتبة

هذا موضع كان أبو حنيفة - رحمه الله - يراه ويأخذ به‏.‏

وذلك أن تؤدي الصنعة إلى حكم ما مثله مما يقتضي التغيير فإن أنت غيرت صرت أيضاً إلى مراجعة مثل ما منه هربت‏.‏

فإذا حصلت على هذا وجب أن تقيم على أول رتبة ولا تتكلف عناء ولا مشقة‏.‏

وأنشدنا أبو علي - رحمه الله - غير دفعة بيتاً مبني معناه على هذا وهو‏:‏ رأى الأمر يفضي إلى آخر فصير آخره أولا وذلك كأن تبني من قويت مثل رسالة فتقول على التذكير‏:‏ قواءة وعلى التأنيث‏:‏ قواوة ثم تكسرها على حد قول الشاعر‏:‏ موالي حلف لا موالي قرابة ولكن قطينا يحلبون الأتاويا - جمع إتاوة - فيلزمك أن تقول حينئذ‏:‏ قواوٍ فتجمع بين واوين مكتنفتي ألف التكسير ولا حاجز بين الأخيرة منهما وبين الطرف‏.‏

ووجه ذلك أن الذي قال ‏"‏ الأتاويا ‏"‏ إنما أراد جمع إتاوة وكان قياسه أن يقول‏:‏ أتاوى كقوله في علاوة وهراوة‏:‏ علاوى وهراوى غير أن هذا الشاعر سلك طريقاً أخرى غير هذه‏.‏

وذلك أنه لما كسر إتاوة حدث في مثال التكسير همزة بعد ألفه بدلاً من ألف فعالة كهمزة رسائل وكنائن فصار التقدير به إلى أتاء ثم تبدل من كسرة الهمزة فتحة لأنها عارضة في الجمع واللام معتلة كباب مطايا وعطايا فتصير حينئذ إلى أتاءى ثم تبدل من الياء ألفاً فتصير إلى أتاءا ثم تبدل من الهمزة واواً لظهورها لاماً في الواحد فتقول‏:‏ أتاوى كعلاوى‏.‏

وكذا تقول العرب في تكسير إتاوة‏:‏ أتاوى‏.‏

غير أن هذا الشاعر لو فعل ذلك لأفسد قافيته فاحتاج إلى قرار الكسرة بحالها لتصح بعدها الياء التي هي روي القافية كما معها من القوافي التي هي ‏"‏ الروابيا ‏"‏ و ‏"‏ الأدانيا ‏"‏ ونحو ذلك فلم يستجز أن يقر الهمزة العارضة في الجمع بحالها إذ كانت العادة في هذه الهمزة أن تعل وتغير إذا كانت اللام معتلة فرأى إبدال همزة أتاء واواً ليزول لفظ الهمزة التي من عادتها في هذا الموضع أن تعل ولا تصح لما ذكرنا فصار ‏"‏ الأتاويا ‏"‏‏.‏

وكذلك قياس فعالة من القوة إذا كسرت أن تصير بها الصنعة إلى قواء ثم تبدل من الهمزة الواو كما فعل من قال ‏"‏ الأتاويا ‏"‏ فيصير اللفظ إلى قواو‏.‏

فإن أنت استوحشت من اكتناف الواوين لألف التكسير على هذا الحد وقلت‏:‏ أهمز كما همزت في أوائل لزمك أن تقول‏:‏ قواء ثم يلزمك ثانياً أن تبدل من هذه الهمزة الواو على ما مضى من حديث ‏"‏ الأتاويا ‏"‏ فتعاود أيضاً قواو ثم لا تزال بك قوانين الصنعة إلى أن تبدل من الهمزة الواو ثم من الواو الهمزة ثم كذلك ثم كذلك إلى ما لا غاية‏.‏

فإن أدت الصنعة إلى هذا ونحوه وجبت الإقامة على أول رتبة منه وألا تتجاوز إلى أمر ترد بعد إليها ولا توجد سبيلاً ولا منصرفاً عنها‏.‏

فإن قلت‏:‏ إن بين المسألتين فرقاً‏.‏

وذلك أن الذي قال ‏"‏ الأتاويا ‏"‏ إنما دخل تحت هذه الكلفة والتزم ما فيها من المشقة وهي ضرورة واحدة وأنت إذا قلت في تكسير مثال فعالة من القوة‏:‏ قواو قد التزمت ضرورتين‏:‏ إحداهما إبدالك الهمزة الحادثة في هذا المثال واواً على ضرورة ‏"‏ الأتاويا ‏"‏ والأخرى كنفك الألف بالواوين مجاوراً آخرهما الطرف فتانك ضرورتان وإنما هي في ‏"‏ الأتاويا ‏"‏ واحدة‏.‏

وهذا فرق يقود إلى اعتذار وترك‏.‏

قيل‏:‏ هذا ساقط وذلك أن نفس السؤال قد كان ضمن ما يلغي هذا الاعتراض ألا ترى أنه كان‏:‏ كيف يكسر مثال فعالة من القوة على قول من قال ‏"‏ الأتاويا ‏"‏ والذي قال ذلك كان قد أبدل من الهمزة العارضة في الجمع واواً فكذلك فأبدلها أنت أيضاً في مسألتك‏.‏

فأما كون ما قبل الألف واواً أو غير ذلك من الحروف فلم يتضمن السؤال ذكراً له ولا عيجاً به فلا يغني إذاً ذكره ولا الاعتراض على ما مضى بحديثه أفلا ترى أن هذا الشاعر لو كان يسمح نفساً بأن يقر هذه الهمزة العارضة في أتاء مكسورة بحالها كما أقرها الآخر في قوله‏:‏ وكان أبو علي ينشدنا‏:‏ ‏.‏

‏.‏

‏.‏

فوق ست سمائيا لقال ‏"‏ الأتائيا ‏"‏ كقوله ‏"‏ سمائيا ‏"‏‏.‏

فقد علمت بذلك شدة نفوره عن إقرار الهمزة العارضة في هذا الجمع مكسورة‏.‏

وإنما اشتد ذلك عليه ونبا عنه لأمر ليس موجوداً في واحد ‏"‏ سمائيا ‏"‏ الذي هو سماء‏.‏

وذلك أن في إتاوة واواً ظاهرة فكما أبدل غيره منها الواو مفتوحة في قوله ‏"‏ الأتاوى ‏"‏ كالعلاوى والهراوى تنبيهاً على كون الواو ظاهرة في واحدة - أعني إتاوة - كوجودها في هراوة وعلاوة كذلك أبدل منها الواو في أتاو وإن كانت مكسورة شحاً على الدلالة على حال الواحد وليس كذلك قوله‏:‏ ‏.‏

‏.‏

‏.‏

فوق سبع سمائيا ألا ترى أن لام واحدة ليست واواً في اللفظ فتراعى في تكسيره كما روعيت في تكسير هراوة وعلاوة‏.‏

فهذا فرق - كم تراه - واضح‏.‏

نعم وقد يلتزم الشاعر لإصلاح البيت ما تتجمع فيه أشياء مستكرهة لا شيئان اثنان‏:‏ وذلك أكثر من أن يحاط به‏.‏

فإذا كان كذلك لزم ما رمناه وصح به ما قدمناه‏.‏

فهذا طريق ما يجيء عليه فقس ما يرد عليك به‏.‏

 باب في الحمل على أحسن الأقبحين

اعلم أن هذا موضع من مواضع الضرورة المميلة‏.‏

وذلك أن تحضرك الحال ضرورتين لا بد من ارتكاب إحداهما فينبغي حينئذ أن تتحمل الأمر على أقربهما وأقلهما فحشاً‏.‏

وذلك كواو ‏"‏ ورنتل ‏"‏ أنت فيها بين ضرورتين‏:‏ إحداهما أن تدعي كونها اصلاً في ذوات الأربعة غير مكررة والواو لا توج في ذوات الأربعة إلا مع التكرير نحو الوصوصة والوحوحة وضوضيت وقوقيت‏.‏

والآخر أن تجعلها زائدة أولاً والواو لا تزاد أولاً‏.‏

فإذا كان كذلك كان أن تجعلها أصلاً أولى من أن تجعلها زائدة وذلك أن الواو قد تكون أصلاً في ذوات الأربعة على وجه من الوجوه أعني في حال التضعيف‏.‏

فأما أن تزاد أولاً فإن هذا أمر لم يوجد على حال‏.‏

فإذا كان كذلك رفضته ولم تحمل الكلمة عليه‏.‏

ومثل ذلك قولك‏:‏ فيها قائماً رجل‏.‏

لما كنت بين أن ترفع قائماً فتقدم الصفة على الموصوف - وهذا لا يكون - وبين أن تنصب الحال من النكرة - وهذا على قلته جائز - حملت المسئلة على الحال فنصبت‏.‏

وكذلك ما قام إلا زيداً أحد عدلت إلى النصب لأنك إن رفعت لم تجد قبله ما تبدله منه وإن نصبت دخلت تحت تقديم المستثنى على ما استثني منه‏.‏

وهذا وإن كان ليس في قوة تأخيره عنه فقد جاء على كل حال‏.‏

فاعرف ذلك أصلاً في العربية تحمل عليه غيره‏.‏

  باب في حمل الشيء على الشيء من غير الوجه الذي أعطى الأول ذلك الحكم

اعلم أن هذا باب طريقه الشبه اللفظي وذلك كقولنا في الإضافة إلى ما فيه التأنيث بالواو وذلك نحو حمراوي وصفراوي وعشراوي‏.‏

وإنما قلبت الهمزة فيه ولم تقر بحالها لئلا تقع علامة التأنيث حشواً‏.‏

فمضى هذا على هذا لا يختلف‏.‏

ثم إنهم قالوا في الإضافة إلى عِلباء‏:‏ علباوي وإلى حِرباء‏:‏ حرباوي فأبدلوا هذه الهمزة وإن لم تكن للتأنيث لكنها لما شابهت همزة حمراء وبابها بالزيادة حملوا عليها همزة علباء‏.‏

ونحن نعلم أن همزة حمراء لم تقلب في حمراوي لكونها زائدة فتشبه بها همزة علباء من حيث كانت زائدة مثلها لكن لما اتفقتا في الزيادة حملت همزة علباء على همزة حمراء‏.‏

ثم إنهم تجاوزوا هذا إلى أن قالوا في كساء وقضاء‏:‏ كساوي وقضاوي فأبدلوا الهمزة واواً حملاً لها على همزة علباء من حيث كانت همزة كساء وقضاء مبدلة من حرف ليس للتأنيث فهذه علة غير الأولى ألا تراك لم تبدل همزة علباء واواً في علباوي لأنها ليست للتأنيث فتحمل عليها همزة كساء وقضاء من حيث كانتا لغير التأنيث‏.‏

ثم إنهم قالوا من بعد في قراء‏:‏ قراوي فشبهوا همزة قراء بهمزة كساء من حيث كانتا أصلاً غير زائدة كما أن همزة كساء غير زائدة‏.‏

وأنت لم تكن أبدلت همزة كساء في كساوي من حيث كانت غير زائدة لكن هذه أشباه لفظية يحمل أحدها على ما قبله تشبثاً به وتصوراً له‏.‏

وإليه وإلى نحوه أومأ سيبويه بقوله‏:‏ وليس شيء يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجهاً‏.‏

وعلى ذلك قالوا‏:‏ صحراوات فأبدلوا الهمزة واواً لئلا يجمعوا بين علمي تأنيث ثم حملوا التثنية عليه من حيث كان هذا الجمع على طريق التثنية ثم قالوا‏:‏ علباوان حملاً بالزيادة على حمراوان ثم قالوا‏:‏ كساوان تشبيهاً له بعلباوان ثم قالوا‏:‏ قُرّاوان حملاً له على كساوان على ما تقدم‏.‏

وسبب هذه الحمول والإضافات والإلحاقات كثرة هذه اللغة وسعتها وغلبة حاجة أهلها إلى التصرف فيها والتركح في أثنائها لما يلابسونه ويكثرون استعماله من الكلام المنثور والشعر الموزون والخطب والسجوع ولقوة إحساسهم في كل شيء شيئاً وتخيلهم ما لا يكاد يشعر به من لم يألف مذاهبهم‏.‏

وعلى هذا ما منع الصرف من الأسماء للشبه اللفظي نحو أحمر وأصفر وأصرم وأحمد وتألب وتنضب علمين لما في ذلك من شبه لفظ الفعل فحذفوا التنوين من الاسم لمشابهته ما لا حصة له في التنوين وهو الفعل‏.‏

والشبه اللفظي كثير‏.‏

وهذا كاف‏.‏

  باب في الرد على من ادعى على العرب عنايتها بالألفاظ وإغفالها المعاني

اعلم أن هذا الباب من أشرف فصول العربية وأكرمها وأعلاها وأنزهها‏.‏

وإذا تأملته عرفت منه وبه ما يؤنقك ويذهب في الاستحسان له كل مذهب بك‏.‏

وذلك أن العرب كما تعنى بألفاظها فتصلحها وتهذبها وتراعيها وتلاحظ أحكامها بالشعر تارة وبالخطب أخرى وبالأسجاع التي تلتزمها وتتكلف استمرارها فإن المعاني أقوى عندها وأكرم عليها وأفخم قدراً في نفوسها‏.‏

فأول ذلك عنايتها بألفاظها‏.‏

فإنها لما كانت عنوان معانيها وطريقاً إلى إظهار أغراضها ومراميها أصلحوها ورتبوها وبالغوا في تحبيرها وتحسينها ليكون ذلك أوقع لها في السمع وأذهب بها في الدلالة على القصد ألا ترى أن المثل إذا كان مسجوعا لذ لسامعه فحفظه فإذا هو حفظه كان جديراً باستعماله ولو لم يكن مسجوعاً لم تأنس النفس به ولا أنقت لمستمعه وإذا كان كذلك لم تحفظه وإذا لم تحفظه لم تطالب أنفسها باستعمال ما وضع له وجيء به من أجله‏.‏

وقال لنا أبو علي يوماً‏:‏ قال لنا أبو بكر‏:‏ إذا لم تفهموا كلامي فاحفظوه فإنكم إذا حفظتموه فهمتموه‏.‏

وكذلك الشعر‏:‏ النفس له أحفظ وإليه أسرع ألا ترى أن الشاعر قد يكون راعياً جلفاً أو عبداً عسيفاً تنبو صورته وتمج جملته فيقول ما يقوله من الشعر فلأجل قبوله وما يورده عليه من طلاوته وعذوبة مستمعه ما يصير قوله حكماً يرجع إليه ويقتاس به ألا ترى إلى قول العبد الأسود‏:‏ إن كنت عبداً فنفسي حرة كرماً أو أسود اللون إني أبيض الخلق وقول نصيب‏:‏ سودت فلم أملك سوادي وتحته قميص من القوهي بيض بنائقه وقول الآخر‏:‏ إني وإن كنت صغيراً سني وكان في العين نبوٌ عني فإن شيطاني أمير الجن يذهب بي في الشعر كل فن حتى يزيل عني التظني فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظها وحسنوها وحموا حواشيها وهذبوها وصقلوا غروبها وأرهفوها فلا ترين أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ بل هي عندنا خدمة منهم للمعاني وتنويه بها وتشريف منها‏.‏

ونظير ذلك إصلاح الوعاء وتحصينه وتزكيته وتقديسه وإنما المبغي بذلك منه الاحتياط للموعى عليه وجواره بما يعطر بشره ولا يعر جوهره كما قد نجد من المعاني الفاخرة السامية ما يهجنه ويغض منه كدرة لفظه وسوء العبارة عنه‏.‏

فإن قلت‏:‏ فإنا نجد من ألفاظهم ما قد نمقوه وزخرفوه ووشوه ودبجوه ولسنا نجد مع ذلك تحته معنى شريفاً بل لا نجد قصداً ولا مقارباً ألا ترى إلى قوله‏:‏ ولما قضينا من منى كل حاجة ومسح بالأركان من هو ماسح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح فقد ترى إلى علو هذا اللفظ ومائه وصقاله وتلامح أنحائه ومعناه مع هذا ما تحسه وتراه‏:‏ إنما هو‏:‏ لما فرغنا من الحج ركبنا الطريق راجعين وتحدثنا على ظهور الإبل‏.‏

ولهذا نظائر كثيرة شريفة الألفاظ رفيعتها مشروفة المعاني خفيضتها‏.‏

قيل‏:‏ هذا الموضع قد سبق إلى التعلق به من لم ينعم النظر فيه ولا رأى ما أراه القوم منه وإنما ذلك لجفاء طبع الناظر وخفاء غرض الناطق‏.‏

وذلك أن في قوله ‏"‏ كل حاجة ‏"‏ ما يفيد منه أهل النسيب والرقة وذوو الأهواء والمقة ما لا يفيده غيرهم ولا يشاركهم فيه من ليس منهم ألا ترى أن من حوائج منى أشياء كثيرة غير ما الظاهر عليه والمعتاد فيه سواها لأن منها التلاقي ومنها التشاكي ومنها التخلي إلى غير ذلك مما هو تال له ومعقود الكون به‏.‏

وكأنه صانع عن هذا الموضع الذي أومأ إليه وعقد غرضه عليه بقوله في آخر البيت‏:‏ ومسح بالأركان من هو ماسح أي إنما كانت حوائجنا التي قضيناها وآرابنا التي أنضيناها من هذا النحو الذي هو مسح الأركان وما هو لاحق به وجار في القربة من الله مجراه أي لم يتعد هذا القدر المذكور إلى ما يحتمله أول البيت من التعريض الجاري مجرى التصريح‏.‏

وأما البيت الثاني فإن فيه‏:‏ أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وفي هذا ما أذكره لتراه فتعجب ممن عجب منه ووضع من معناه‏.‏

وذلك أنه لو قال‏:‏ أخذنا في أحاديثنا ونحو ذلك لكان فيه معنى يكبره أهل النسيب وتعنو له ميعة الماضي الصليب‏.‏

وذلك أنهم قد شاع عنهم واتسع في محاوراتهم علو قدر الحديث بين الأليفين والفكاهة بجمع شمل المتواصلين ألا ترى إلى قول الهذلي‏:‏ وإن حديثاً منك لو تعلمينه جنى النخل في ألبان عوذ مطافل وحديثها كالغيث يسمعه راعي سنين تتابعت جدبا فأصاخ يرجو أن يكون حياً ويقول من فرح هيا ربا وقال الآخر‏:‏ وحدثتني يا سعد عنها فزدتني جنوناً فزدني من حديثك يا سعد وقال المولد‏:‏ وحديثها السحر الحلال لو انه لم يجن قتل المسلم المتحرز الأبيات الثلاثة‏.‏

فإذا كان قدر الحديث - مرسلاً - عندهم هذا على ما ترى فكيف به إذا قيده بقوله ‏"‏ بأطراف الأحاديث ‏"‏‏.‏

وذلك أن قوله ‏"‏ أطراف الأحاديث ‏"‏ وحياً خفياً ورمزاً حلواً ألا ترى أنه يريد بأطرافها ما يتعاطاه المحبون ويتفاوضه ذوو الصبابة المتيمون من التعريض والتلويح والإيماء دون التصريح وذلك أحلى وأدمث وأغزل وأنسب من أن يكون مشافهة وكشفاً ومصارحة وجهراً وإذا كان كذلك فمعنى هذين البيتين أعلى عندهم وأشد تقدماً في نفوسهم من لفظهما وإن عذب موقعه وأنق له مستمعه‏.‏

نعم وفي قوله‏:‏ فكأن العرب إنما تحلى ألفاظها وتدبجها وتشيها وتزخرفها عناية بالمعاني التي وراءها وتوصلا بها إلى إدراك مطالبها وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ إن من الشعر لحكماً وإن من البيان لسحراً ‏)‏‏.‏

فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتقد هذا في ألفاظ هؤلاء القوم التي جعلت مصايد وأشراكاً للقلوب وسبباً وسلماً إلى تحصيل المطلوب عرف بذلك أن الألفاظ خدم للمعاني والمخدوم - لا شك - أشرف من الخادم‏.‏

والأخبار في التلطف بعذوبة الألفاظ إلى قضاء الحوائج أكثر من أن يؤتى عليها أو يتجشم للحال نعت لها ألا ترى إلى قول بعضهم وقد سأل آخر حاجة فقال المسئول‏:‏ إن علي يميناً ألا أفعل هذا‏.‏

فقال له السائل‏:‏ إن كنت - أيدك الله - لم تحلف يميناً قط على أمر فرأيت غيره خيراً منه فكفرت عنها له وأمضيته فما أحب أن أحنثك وإن كان ذلك قد كان منك فلا تجعلني أدون الرجلين عندك‏.‏

فقال له‏:‏ سحرتني وقضى حاجته‏.‏

وندع هذا ونحوه لوضوحه ولنأخذ لما كنا عليه فنقول‏:‏ مما يدل عىل اهتمام العرب بمعانيها وتقدمها في أنفسها على ألفاظها أنهم قالوا في شمللت وصعررت وبيطرت وحوقلت ودهورت وسلقيت وجعبيت‏:‏ إنها ملحقة بباب دحرجت‏.‏

وذلك أنهم وجدوها على سمتها‏:‏ عدد حروف وموافقة بالحركة والسكون فكانت هذه صناعة لفظية ليس فيها أكثر من إلحاقها ببنائها واتساع العرب بها في محاوراتها وطرق كلامها‏.‏

والدليل على أن فعللت وفعيلت وفوعلت وفعليت ملحقة بباب دحرجت مجيء مصادرها على مثل مصادر باب دحرجت‏.‏

وذلك قولهم‏:‏ الشمللة والبيطرة والحوقلة والدهورة والسلقاة والجعباة‏.‏

فهذا ونحوه كالدحرجة والهملجة والقوقاة والزوزاة‏.‏

فلما جاءت مصادرها الرباعية والمصادر أصول للأفعال حكم بإلحاقها بها ولذلك استمرت في تصريفها استمرار ذوات الأربعة‏.‏

فقولك‏:‏ بيطر يبيطر بيطرة كدحرج يدحرج دحرجة ومبيطر كمدحرج‏.‏

وكذلك شملل يشملل شمللة وهو مشملل‏.‏

فظهور تضعيفه على هذا الوجه أوضح دليل على إرادة إلحاقه‏.‏

ثم إنهم قالوا‏:‏ قاتل يقاتل قتالاً ومقاتلة وأكرم يكرم إكراماً وقطع يقطع تقطيعاً فجاءوا بأفعل وفاعل وفعل غير ملحقة بدحرج وإن كانت على سمته وبوزنه كما كانت فعلل وفيعل وفوعل وفعول وفعلى على سمته ووزنه ملحقة‏.‏

والدليل على أن فاعل وأفعل وفعل غير ملحقة بدحرج وبابه امتناع مصادرها أن تأتي على مثال الفعللة ألا تراهم لا يقولون‏:‏ ضارب ضاربة ولا أكرم أكرمة ولا قطع قطعة فلما امتنع فيها هذا - وهو العبرة في صحة الإلحاق - علم أنها ليست ملحقة بباب دحرج‏.‏

فإذا قيل‏:‏ فقد تجيء مصادرها من غير هذا الوجه على مثال مصادر ذوات الأربعة ألا تراهم يقولون‏:‏ قاتل قيتالاً وأكرم إكراماً ‏{‏وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا‏}‏ فهذا بوزن الدحراج والسرهاف والزلزال والقلقال قال‏:‏ سرهفته ما شئت من سرهاف قيل‏:‏ الاعتبار بالإلحاق بها ليس إلا من جهة الفعللة دون الفعلال وبه كان يعتبر سيبويه‏.‏

ويدل على صحة ذلك أن مثال الفعللة لا زيادة فيه فهو بفعلل أشبه من مثال الفعلال والاعتبار بأصول أشبه منه وأوكد منه بالفروع‏.‏

فإن قلت‏:‏ ففي الفعللة الهاء زائدة قيل‏:‏ الهاء في غالب أمرها وأكثر أحوالها غير معتدة من حيث كانت في تقدير المنفصلة‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد صح إذاً أن فاعل وأفعل وفعّل - وإن كانت بوزن دحرج - غير ملحقة به فلم لم تلحق به قيل‏:‏ العلة في ذلك أن كل واحد من هذه المثل جاء بمعنى‏.‏

فأفعل للنقل وجعل الفاعل مفعولاً نحو دخل وأدخلته وخرج وأخرجته‏.‏

ويكون أيضاً للبلوغ نحو أحصد الزرع وأركب المهر وأقطف الزرع ولغير ذلك من المعاني‏.‏

وأما فاعل فلكونه من اثنين فصاعداً نحو ضارب زيد عمراً وشاتم جعفر بشراً‏.‏

وأما فعّل فللتكثير نحو غلّق الأبواب وقطّع الحبال وكسّر الجرار‏.‏

فلما كانت هذه الزوائد في هذه المثل إنما جيء بها للمعاني خشوا إن هم جعلوها ملحقة بذوات الأربعة أن يقدر أن غرضهم فيها إنما هو إلحاق اللفظ باللفظ نحو شملل وجهور وبيطر فتنكبوا إلحاقها بها صوناً للمعنى وذباً عنه أن يستهلك ويسقط حكمه فأخلوا بالإلحاق لما كان صناعة لفظية ووقروا المعنى ورجبوه لشرفه عندهم وتقدمه في أنفسهم‏.‏

فرأوا الإخلال باللفظ في جنب الإخلال بالمعنى يسيراً سهلاً وحجماً محتقراً‏.‏

وهذا الشمس إنارة مع أدنى تأمل‏.‏

ومن ذلك أيضاً أنهم لا يلحقون الكلمة من أولها إلا أن يكون مع الحرف الأول غيره ألا ترى أن ‏"‏ مَفعلاً ‏"‏ لما كانت زيادته في أوله لم يكن ملحقاً بها نحو‏:‏ مَضرب ومَقتل‏.‏

وكذلك ‏"‏ مِفعل ‏"‏ نحو‏:‏ مِقطع ومِنسج وإن كان مَفعل بوزن جعفر ومِفعل بوزن هِجرع‏.‏

يدل على أنهما ليسا ملحقين بهما ما نشاهده من ادغامهما نحو مسد ومرد ومتل ومشل‏.‏

ولو كانا ملحقين لكانا حري أن يخرجا على أصولهما كما خرج شملل وصعرر على أصله‏.‏

فأما محبب فعلم خرج شاذاً كتهلل ومكوزة ونحو ذلك مما احتمل لعلميته‏.‏

وسبب امتناع مَفعل ومِفعل أن يكونا ملحقين - وإن كانا على وزن جعفر وهِجرع - أن الحرف الزائد في أولهما وهو لمعنى وذلك أن مَفعلاً يأتي للمصادر نحو ذهب مذهباً ودخل مدخلاً وخرج مخرجاً‏.‏

ومِفعلاً يأتي للآلات والمستعملات نحو مِطرق ومِروح ومِخصف ومئزر‏.‏

فلما كانت الميمان ذواتى معنى خشوا إن هم ألحقوا بهما أن يتوهم أن الغرض فيهما إنما هو الإلحاق حسب فيستهلك المعنى المقصود بهما فتحاموا الإلحاق بهما ليكون ذلك موفراً على المعنى لهما‏.‏

ويدلك على تمكن المعنى في أنفسهم وتقدمه للفظ عندهم تقديمهم لحرف المعنى في أول الكلمة وذلك لقوة العناية به فقدموا دليله ليكون ذلك أمارة لتمكنه عندهم‏.‏

وعلى ذلك تقدمت حروف المضارعة في أول الفعل إذ كن دلائل على الفاعلين‏:‏ من هم وما هم وكم عدتهم نحو أفعل ونفعل وتفعل ويفعل وحكموا بضد ‏"‏ هذا لِلّفظ ‏"‏ ألا ترى إلى ما قاله أبو عثمان في الإلحاق‏:‏ إن أقيَسه أن يكون بتكرير اللام فقال‏:‏ باب شمللت وصعررت أقيس من باب حوقلت وبيطرت وجهورت‏.‏

أفلا ترى إلى حروف المعاني‏:‏ كيف بابها التقدم وإلى حروف الإلحاق والصناعة‏:‏ كيف بابها التأخر‏.‏

فلو لم يعرف سبق المعنى عندهم وعلوه في تصورهم إلا بتقديم دليله وتأخر دليل نقيضه لكان مغنياً من غيره كافياً‏.‏

وعلى هذا حشوا بحروف المعاني فحصنوها بكونها حشواً وأمنوا عليها ما لا يؤمن على الأطراف المعرضة للحذف والإجحاف‏.‏

وذلك كألف التكسير وياء التصغير نحو دارهم ودريهم وقماطر وقميطر‏.‏

فجرت في ذلك - لكونها حشواً - مجرى عين الفعل المحصنة في غالب الأمر المرفوعة عن

حال الطرفين من الحذف ألا ترى إلى كثرة باب عدة وزنة وناس والله في أظهر قولي سيبويه وما حكاه أبو زيد من قولهم لاب لك وويلِمّهِ ويا با المغيرة وكثرة باب يد ودم وأخ وأب وغَد وهَن وحِر واست وباب ثُبة وقُلة وعِزَة وقلة باب مُذ وسَه‏:‏ إنما هما هذان الحرفان بلا خلاف‏.‏

وأما ثُبة ولِثة فعلى الخلاف‏.‏

فهذا يدلك على ضنهم بحروف المعاني وشحهم عليها‏:‏ حتى قدموها عناية بها أو وسطوها تحصيناً لها‏.‏

فإن قلت‏:‏ فقد نجد حرف المعنى آخراً كما نجده أولاً ووسطاً‏.‏

وذلك تاء التأنيث وألف التثنية وواو الجمع على حده والألف والتاء في المؤنث وألفا التأنيث في حمراء وبابها وسكرى وبابها وياء الإضافة كهني فما ذلك قيل‏:‏ ليس شيء مما تأخرت فيه علامة معناه إلا لعاذر مقنع‏.‏

وذلك أن تاء التأنيث إنما جاءت في طلحة وبابها آخراً من قبل أنهم أرادوا أن يعرفونا تأنيث ما هو وما مذكره فجاءوا بصورة المذكر كاملة مصححة ثم ألحقوها تاء التأنيث ليعلموا حال صورة التذكير وأنه قد استحال بما لحقه إلى التأنيث فجمعوا بين الأمرين ودلوا على الغرضين‏.‏

ولو جاءوا بعلم التأنيث حشواً لانكسر المثال ولم يعلم تأنيث أي شيء هو‏.‏

فإن قلت‏:‏ فإن ألف التكسير وياء التحقير قد تكسران مثال الواحد والمكبر وتخترمان صورتيهما لأنهما حشو لا آخر‏.‏

وذلك قولك دفاتر ودفيتر وكذلك كليب وحجير ونحو ذلك قيل‏:‏ أما التحقير فإنه أحفظ للصورة من التكسير ألا تراك تقول في تحقير حبلى‏:‏ حبيلى وفي صحراء‏:‏ صحيراء فتقر ألف التأنيث بحالها فإذا كسرت قلت‏:‏ حبالى وصحارى وأصل حبالى حبال كدعاو وتكسير دعوى فتغير علم التأنيث‏.‏

وإنما كان الأمر كذلك من حيث كان تحقير الاسم لا يخرجه عن رتبته الأولى - أعني الإفراد - فأقر بعض لفظه لذلك وأما التكسير فيبعده عن الواحد الذي هو الأصل فيحتمل التغيير لا سيما مع اختلاف معاني الجمع فوجب اختلاف اللفظ‏.‏

وأما ألف التأنيث المقصورة والممدودة فمحمولتان على تاء التأنيث وكذلك علم التثنية والجمع على حده لاحق بالهاء أيضاً‏.‏

وكذلك ياء النسب‏.‏

وإذا كان الزائد غير ذي المعنى قد قوي سببه حتى لحق بالأصول عندهم فما ظنك بالزائد ذي المعنى وذلك قولهم في اشتقاق الفعل من قلنسوة تارة‏:‏ تقلنس وأخرى‏:‏ تقلسى فأقروا النون وإن كانت زائدة وأقروا أيضاً الواو حتى قلبوها ياء في تقلسيت‏.‏

وكذلك قالوا‏:‏ قَرنُوة فلما اشتقوا الفعل منها قالوا قرنيت السقاء فأثبتوا الواو كما أثبتوا بقية حروف الأصل‏:‏ من القاف والراء والنون ثم قلبوها ياء في قرنيت‏.‏

هذا مع أن الواو في قرنوة زائدة للتكثير والصيغة لا للإلحاق ولا للمعنى وكذلك الواو في قلنسوة للزيادة غير الإلحاق وغير المعنى‏.‏

وقالوا في نحوه‏:‏ تعفرت الرجل إذا صار عفريتاً فهذا تفعلت وعليه جاء تمسكن وتمدرع وتمنطق وتمندل ومخرق وكان يسمى محمداً ثم تمسلم أي صار يسمى مسلماً و ‏"‏ مرحبك الله ومسهلك ‏"‏ فتحملوا ما فيه تبقية الزائد مع الأصل في حال الاشتقاق كل ذلك توفية للمعنى وحراسة له ودلالة عليه‏.‏

ألا تراهم إذ قالوا‏:‏ تدرع وتسكن وإن كانت أقوى اللغتين عند أصحابنا فقد عرضوا أنفسهم لئلا يعرف غرضهم‏:‏ أمن الدرع والسكون أم من المدرعة والمسكنة وكذلك بقية الباب‏.‏

ففي هذا شيئان‏:‏ أحدهما حرمة الزائد في الكلمة عندهم حتى أقروه إقرار الأصول‏.‏

والآخر ما يوجبه ويقضى به‏:‏ من ضعف تحقير الترخيم وتكسيره عندهم لما يقضى به ويفضي بك إليه‏:‏ من حذف الزوائد على معرفتك بحرمتها عندهم‏.‏

فإن قلت‏:‏ فإذا كان الزائد إذا وقع أولاً للإلحاق فكيف ألحقوا بالهمزة في ألَندد وألَنجج والياء في يلَندد ويلَنجج والدليل على الإلحاق ظهور التضعيف قيل‏:‏ قد قلنا قبل‏:‏ إنهم لا يلحقون الزائد من أول الكلمة إلا أن يكون معه زائد آخر فلذلك جاز الإلحاق بالهمزة والياء في ألندد ويلندد لما انضم إلى الهمزة والياء والنون‏.‏

وكذلك ما جاء عنهم من إنقحل - في قول صاحب الكتاب - ينبغي أن تكون الهمزة في أوله للإلحاق - بما اقترن بها من النون - بباب جِردَحل‏.‏

ومثله ما رويناه عنهم من قولهم‏:‏ رجل إنزَهوٌ وامرأة إنزَهوة ورجال إنزهوون ونساء إنزهوات إذا كان ذا زهو فهذا إذاً إنفعل‏.‏

ولم يحك سيبويه من هذا الوزن إلا إنقحلا وحده وأنشد الأصمعي - رحمه الله -‏:‏ لما رأتني خَلَقاً إنقَحلا ويجوز عندي في إنزهوٍ غير هذا وهو أن تكون همزته بدلاً من عين فيكون أصله عِنزَهو‏:‏ فِنعلو من العزهاة وهو الذي لا يقرب النساء‏.‏

والتقاؤهما أن فيه انقباضاً وإعراضاً وذلك طرف من أطراف الزهو قال‏:‏ إذا كنت عزهاة عن اللهو والصبا فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا وإذا حملته على هذا لحق بباب أوسع من إنقحل وهو باب قِندأو وسِندأو وحِنطأو وكِنتأو‏.‏

فإن قيل‏:‏ ولم لما كان مع الحرف الزائد إذا وقع أولاً زائد ثان غيره صارا جميعاً للإلحاق وإذا انفرد الأول لم يكن له قيل‏:‏ لما كنا عليه من غلبة المعاني للألفاظ على ما تقدم‏.‏

وذلك أن أصل الزيادة في أول الكلمة إنما هو للفعل‏.‏

وتلك حروف المضارعة في أفعلُ ونفعلُ وتفعلُ ويفعلُ وكل واحد من أدلة المضارعة إنما هو حرف واحد فلما انضم إليه حرف آخر فارق بذلك طريقه في باب الدلالة على المعنى فلم ينكر أن يصار به حينئذ إلى صنعة اللفظ وهي الإلحاق‏.‏

ويدلك على تمكن الزيادة إذا وقعت أولاً في الدلالة على المعنى تركهم صرف أحمد وأرمل وأزمل وتنضب ونرجس معرفة لأن هذه الزوائد في أوائل الأسماء وقعت موقع ما هو أقعد منها في ذلك الموضع وهي حروف المضارعة‏.‏

فضارع أحمد أركب وتنضب تقتل ونرجس نضرب فحمل زوائد الأسماء في هذا على أحكام زوائد الأفعال دلالة على أن الزيادة في أوئل الكلم إنما بابها الفعل‏.‏

فإن قلت‏:‏ فقد نجدها للمعنى ومعها زائد آخر غيرها وذلك نحو ينطلق وأنطلق وأحرنجم ويخرنطم ويقعنسس‏.‏

قيل‏:‏ المزيد للمضارعة هو حرفها وحده فأما النون فمصوغة في حشو الكلمة في الماضي نحو احرنجم ولم تجتمع مع حرف المضارعة في وقت واحد كما التقت الهمزة والياء مع النون في ألنجج ويلندد في وقت واحد‏.‏

فإن قلت‏:‏ فقد تقول‏:‏ رجل ألد ثم تلحق النون فيما بعد فتقول‏:‏ ألندد فقد رأيت الهمزة والنون غير مصطحبتين‏.‏

قيل‏:‏ هاتان حالان متعاديتان وذلك أن ألد ليس من صيغة ألندد في وأما ألندد فهمزته مرتجلة مع النون في حال واحدة ولا يمكنك أن تدعي أن احرنجم لما صرت إلى مضارعه فككت يده عما كان فيها من الزوائد ثم ارتجلت له زوائد غيرها ألا ترى أن المضارع مبناه على أن ينتظم جميع حروف الماضي من أصل أو زائد كبيطر ويبيطر وحوقل ويحوقل وجهور ويجهور وسلقى ويسلقي وقطع ويقطع وتكسر ويتكسر وضارب ويضارب‏.‏

فأما أكرم يكرم فلولا ما كره من التقاء الهمزتين في أؤكرم لو جيء به على أصله للزم أن يؤتى بزيادته فيه كما جيء بالزيادة في نحو يتدحرج وينطلق‏.‏

وأما همزة انطلق فإنما حذفت في ينطلق للاستغناء عنها بل قد كانت في حال ثباتها في حكم الساقط أصلاً فهذا واضح‏.‏

ولأجل ما قلناه‏:‏ من أن الحرف المفرد في أول الكلمة لا يكون للإلحاق ما حمل أصحابنا تهلل على أن ظهور تضعيفه إنما جاز لأنه عَلَم والأعلام تغير كثيراً‏.‏

ومثله عندهم محبب لما ذكرناه‏.‏

وسألت يوماً أبا علي - رحمه الله - عن تجفاف‏:‏ أتاؤه للإلحاق بباب قرطاس فقال‏:‏ نعم واحتج في ذلك بما انضاف إليها من زيادة الألف معها‏.‏

فعلى هذا يجوز أن يكون ما جاء عنهم من باب أُملود وأُظفور ملحقاً بباب عُسلوج ودُملوج وأن يكون إطريح وإسليح ملحقاً بباب شِنظيز وخنزير‏.‏

ويبعد هذا عندي لأنه يلزم منه أن يكون باب إعصار وإسنام ملحقاً بباب حِدبار وهِلقام وباب إفعال لا يكون ملحقاً ألا ترى أنه في الأصل للمصدر نحو إكرام وإحسان وإجمال وإنعام وهذا مصدر فعل غير ملحق فيجب أن يكون المصدر في ذلك على سمت فعله غير مخالف له‏.‏

وكأن هذا ونحوه إنما لا يجوز أن يكون ملحقاً من قبل أن ما زيد على الزيادة الأولى في أوله إنما هو حرف لين وحرف اللين لا يكون للإلحاق إنما جيء به لمعنى وهو امتداد الصوت به وهذا حديث غير حديث الإلحاق ألا ترى انك إنما تقابل بالملحق الأصل وباب المد إنما هو الزيادة أبداً فالأمران على ما ترى في البعد غايتان‏.‏

فإن قلت على هذا‏:‏ فما تقول في باب إزمَول وإدرَون أملحق هو أم غير ملحق وفيه - كما ترى - مع الهمزة الزائدة الواو زائدة قيل‏:‏ لا بل هو ملحق بباب جردحل وحنزقر‏.‏

وذلك أن الواو التي فيه ليست مداً لأنها مفتوح ما قبلها فشابهت الأصول بذلك فألحقت بها‏.‏

فإن قلت‏:‏ فقد قال في طومار‏:‏ إنه ملحق بقسطاس والواو كما ترى بعد الضمة أفلا تراه كيف ألحق بها مضموماً ما قبلها‏.‏

قيل‏:‏ الأمر كذلك وذلك أن موضع المد إنما هو قبيل الطرف مجاوراً له كألف عماد وياء سعيد وواو عمود‏.‏

فأما واو طومار وياء ديماس فيمن قال دياميس فليستا للمد لأنهما لم تجاورا الطرف‏.‏

وعلى ذلك قال في طومار‏:‏ إنه ملحق لما فلو بنيت على هذا من ‏"‏ سألت ‏"‏ مثل طومار وديماس لقلت‏:‏ سوءال وسيئال‏.‏

فإن خففت الهمزة ألقيت حركتها على الحرفين قبلها ولم تحتشم ذلك فقلت‏:‏ سوال وسيال ولم تجرهما مجرى واو مقروءة وياء خطيئة في إبدالك الهمزة بعدهما إلى لفظهما وادغامك إياهما فيها في نحو مقروة وخطية‏.‏

فلذلك لم يقل في تخفيف سوءال وسيئال‏:‏ سُوّال ولا سِيّال‏.‏

فاعرفه‏.‏

فإن قيل‏:‏ ولم لم يتمكن حال المد إلا أن يجاور الطرف قيل‏:‏ إنما جيء بالمد في هذه المواضع لنعمته وللين الصوت به‏.‏

وذلك أن آخر الكلمة موضع الوقف ومكان الاستراحة والأون فقدموا أمام الحرف الموقوف عليه ما يؤذن بسكونه وما يخفض من غلواء الناطق واستمراره على سنن جريه وتتابع نطقه‏.‏

ولذلك كثرت حروف المد قبل حرف الرويّ - كالتأسيس والردف - ليكون ذلك مؤذناً بالوقوف ومؤدياً إلى الراحة والسكون‏.‏

وكلما جاور حرف المد الروي كان آنس به وأشد إنعاماً لمستمعه‏.‏

نعم وقد نجد حرف اللين في القافية عوضاً عن حرف متحرك أوزنة حرف متحرك حذف من آخر البيت في أتم أبيات ذلك البحر كثالث الطويل وثاني البسيط والكامل‏.‏

فلذلك كان موضع حرف اللين إنما هو لما جاور الطرف‏.‏

فأما ألف فاعل وفاعال وفاعول ونحو ذلك فإنها وإن كانت راسخة في اللين وعريقة في المد فليس ذلك لاعتزامهم المد بها بل المد فيها - أين وقعت - شيء يرجع إليها في ذوقها وحسن النطق بها ألا تراها دخولها في ‏"‏ فاعل ‏"‏ لتجعل الفعل من اثنين فصاعداً نحو ضارب وشاتم فهذا معنى غير معنى المد وحديث غير حديثه‏.‏

وقد ذكرت هذا الموضع في كتابي في شرح تصريف أبي عثمان وغيره من كتبي وما خرج من كلامي‏.‏

فإن قلت‏:‏ فإذا كان الأمر كذا فهلا زيدت المدات في أواخر الكلم للمد فإن ذلك أنأى لهن وأشد تمادياً بهن قيل‏:‏ يفسد ذاك من حيث كان مؤدياً إلى نقض الغرض وذلك أنهن لو تطرفن لتسلط الحذف عليهن فكان يكون ما أرادوه من زيادة الصوت بهن داعياً إلى استهلاكه بحذفهن ألا ترى أن ما جاء في آخره الياء والواو قد حفظن عليه وارتبطن له بما زيد عليهن من التاء من بعدهن وذلك كعفرية وحدرية وعفارية وقراسية وعلانية ورفاهية وبُلهنية وسُحفنية وكذلك عرقوة وترقوة وقلنسوة وقمحدوة‏.‏

فأما رباع وثمان وشناح فإنما احتمل ذلك فيه للفرق بين المذكر والمؤنث في رباعية وثمانية وشناحية‏.‏

وأيضاً فلو زادوا الواو طرفاً لوجب قلبها ياء ألا تراها لما حذفت التاء عنها في الجمع قلبوها ياء قال‏:‏ أهل الرياط البيض والقلنسي وقال المجنون‏:‏ وبيض القلنسي من رجال أطاول حتى تقُضّي عرقي الدُلي وأيضاً فلو زيدت هذه الحروف طرفاً للمد بها لانتقض الغرض من موضع آخر‏.‏

وذلك أن الوقف على حرف اللين ينقصه ويستهلك بعض مده ولذلك احتاجوا لهن إلى الهاء في الوقف ليبين بها حرف المد‏.‏

وذلك قولك‏:‏ وازيداه وواغلامهموا وواغلام غلامهيه‏.‏

وهذا شيء اعترض فقلنا فيه ولنعد‏.‏

فإن قيل زيادة على مضى‏:‏ إذا كان موضع زيادة الفعل أوله بما قدمته وبدلالة اجتماع ثلاث زوائد فيه نحو استفعل وباب زيادة الاسم آخراً بدلالة اجتماع ثلاث زوائد فيه نحو عِنظيان وخِنذيان وخُنزوان وعُنفوان فما بالهم جعلوا الميم - وهي من زوائد الأسماء - مخصوصاً بها أول المثال نحو مفعل ومفعول ومِفعال ومُفعِل وذلك الباب على طوله‏.‏

قيل‏:‏ لما جاءت لمعنى ضارعت بذلك حروف المضارعة فقدمت وجعل ذلك عوضاً من غلبة زيادة الفعل على أول الجزء كما جعل قلب الياء واواً في التقوى والبقوى عوضاً من كثرة دخول الواو على الياء‏.‏

وعلى الجملة فالاسم أحمل للزيادة في آخره من الفعل وذلك لقوة الاسم وخفته فاحتمل سحب الزيادة من آخره‏.‏

والفعل - لضعفه وثقله - لا يتحامل بما يتحامل به الاسم من ذلك لقوته‏.‏

ويدلك على ثقل الزيادة في آخر الكلمة أنك لا تجد في ذوات الخمسة ما زيد فيه من آخره إلا الألف لخفتها وذلك قبعثرى وضبغطرى وإنما ذلك لطول ذوات الخمسة فلا ينتهي إلى آخرها إلا وقد ملت لطولها‏.‏

فلم يجمعوا على آخرها تماديه وتحميله الزيادة عليه‏.‏

فإنما زيادتها في حشوها نحو عضرفوط وقرطبوس ويستعور وصهصليق وجعفليق وعندليب وحنبريت‏.‏

وذلك أنهم لما أرادوا ألا يخلوا ذوات الخمسة من الزيادة كما لم يخلوا منها الأصلين اللذين قبلها حشوا بالزيادة تقديماً لها كراهية أن ينتهي إلى آخر الكلمة على طولها ثم يتجشموا حينئذ زيادة هناك فيثقل أمرها ويتشنع عليهم تحملها‏.‏

فقد رأيت - بما أوردناه - غلبة المعنى للفظ وكون اللفظ خادماً له مشيداً به وأنه إنما جيء به له ومن أجله‏.‏

وأما غير هذه الطريق‏:‏ من الحمل على المعنى وترك اللفظ - كتذكير المؤنث وتأنيث المذكر وإضمار الفاعل لدلالة المعنى عليه وإضمار المصدر لدلالة الفعل عليه وحذف الحروف والأجزاء التوام والجمل وغير ذلك حملاً عليه وتصوراً له وغير ذلك مما يطول ذكره ويمل أيسره - فأمر مستقر ومذهب غير مستنكر‏.‏